" كُنْ موضوعيّاً "، جملة نسمعها كثيراً في أوساطنا الثقافيّة المختلفة، وباتت " شططاً "علامةً تشير إلى ثقافة ورحابة صدر المتفوّه بها. لكن ما هي الموضوعيّة وما هي الذاتيّة؟ ولماذا ينأى بعضنا عن وصف نفسه بأنه ذاتيّ، ويرى كلمة " الذاتيّة " كلمة مفخَّخَةً ملآنة بالأخطار؟ وهل ندرك حقاً اسقاطات وتراكب مضامين ما نتفوّه به حين ينصح بعضنا بعضاً بأن نكون موضوعيين؟... هذه وغيرها من التساؤلات تدور في مستويات وعيّ منذ فترة طويلة، ولا أستطيع الجزم أني امتلكت الرصيد المعرفيّ الكافي للتصدّر للكتابة عن إشكاليّة كهذه؛ لذلك سنتشارك سويّاً بعضاً مما أعرفه عنها، محاولين تعميق نظرات وأفكار بعضنا البعض.

لن أتطرّق للتفصيل " الأكاديميّ " الذي يهتم بمحاولة وضع تعريفات وأنماطٍ للذاتيّة والموضوعيّة؛ فلا أظن هذا يفيد نقاشنا بشيء، لكني سأعرض لكم شذرةً مكثّفة من شذرات نيتشه، حواها كتابه " هذا هو الإنسان " يقول فيها: " ليس بإمكان أحد بالنهاية أن يسمع من الأشياء - بما في ذلك الكتب - أكثر مما يعرف مُسْبقًا. فما لم يكن للمرءِ من معرفةٍ به عن تجرِبة معاشة لا يمكن له أن يسمعه. لنتصور الآن حالة قصوى حيث يروي كتابٌ أحداثًا تقع "خارج الإمكانات " التي " تمنحها التجارب المتداولة "، بل وحتى النادرة منها، بحيث يغدو لغة أولى لسلسة جديدة من التجارب، في مثل تلك الحالة سيكون من المتعذّر سماع أي شيء وبفعل التوهم السمعي يغدو ما هو غير مسموع غير موجود أيضًا... كل من يعتقد أنه فهم شيئًا من كتاباتي فقد فهم مني ما فهم طبقًا لصورته الخاصة، وفي أغلب الأحيان شيئًا مناقضًا لي تمامًا مثل اعتباري "مثاليًّا ". أما من لم يفهم مني أي شيء فقد أنكر حتى مجرد أن أدخل في الحسبان".

بهذه الكلمات المقتضبة، أرى الفيلسوف الألمانيّ أبطل ثنائيّة الذاتيّ والموضوعيّ، وعرض فكرة جديدة تعبّر عنهما، هي الديالكتيك. الديالكتيك الذي لا يرى أيّاً من الموضوعات قائمةً بذاتها في ثنايا الوجود؛ بل يرى التداخل والصيرورة الزمنيّة لكل موضوعٍ على حدة، ثم يضمُّ المواضيع بعضاً إلى بعض، في سبيل تكوين رؤية. والمقصود بالموضوع هنا: الشيء الموجود في العالم الخارجيّ؛ فهو كلُّ ما يُدرَك بالحس ويخضع للتجربة، وله إطار خارجي، ويُوجد مستقلاً عن الإرادة والوعي الإنسانيّ.

لكن من خلال كلمات نيتشه، هل يكون العقل صفحةً بيضاء قابلةً لتسجيل الوقائع ورصدها بحيادٍ شديد كما يزعم البعض؟ أم أنَّ كلماته - المبرهَنة في موضعها الذي اقتطعتها منه – تخبرنا عن ذاتيّة تغزو وتملأ كل رؤية/ قناعة نسميّها موضوعيّة؟