كثيراً ما ينصحنا رواد "التنمية البشرية" بالتفكير بشكل "كبير"، هل يمكن أن يكون أحياناً الرضى بالواقع والالتزام بروتين يومي هو شجاعة أكبر من الطموح الكبير والبحث دائماً عن التطوير الذاتي؟

صدّرت لنا الولايات المتحدة ثقافة ما أٌطلق عليه بالعربية (التنمية البشرية)، وقد تغلغلت هذه الأفكار في أجيال كاملة، نشأوا وهم يتوقعون أن كلهم سيكونون مليونيرات ومشاهير.

وكلنا نرى العديدين من حولنا، يسعون ويلهثون ويضعون أنفسهم تحت ضغوط جمة، لكي يحققوا هذا المعيار والهدف الذي وضعوه لأنفسهم.

وثقافتنا المنتشرة حالياً عادةً تعتبر هذا السعي وهذه الرؤية للحياة شيئاً إيجابياً: "إن طموحه كبير!"، "إنه يحلم بأن يصبح عظيماً"، أصبحنا نرى أن علينا أن نصبح كلنا (مارك زوكيربرج) و (بيل جيتس) و (ستيف جوبز) !

لكن ماذا لو أن مثل هذا الإدمان للتنمية البشرية، ووضع الأهداف التي تكاد تكون مستحيلة، هو مجرد هروب؟!

نعم، هروب! هروب من أن الوصول إلى أي شئ له قيمة في هذا العالم، يتكون من خطوات بطيئة جدا، ليس لها أي بريق، وتكرار عادات على مدى سنوات، وضبط للذات مستمر.

في الأجيال الجديدة، توجد رغبة في الهروب من ذلك الروتين والتكرار، توجد رغبة في النجاحات السريعة، في البريق الفوري، ولكن واقعياً الحياة ليست كذلك، فمعظم الحياة هي تحمل لمسئوليات في العادة لا نحبها، تكرار لروتين يومي لسنوات، الذهاب إلى العمل والإضطرار إلى التعامل مع بعض الزملاء قد لا نحبهم، أو مديراً يرهقنا بالأعمال الصعبة. أطفالٌ بالمنزل أو واجبات مدرسية... إن الأصل في الحياة هي هذه الأنشطة المملة التكرارية، إن هذه هي النجاحات الحقيقية، الاستيقاظ يوميا والقيام بمسئولياتنا هو نجاح كافي بالنسبة إلىَّ لكي أنام صافِ الذهن.

ولكن تلك الثقافة التي تدعو الجميع إلى أن يكونوا رواد أعمال صارت تسخر من الحياة اليومية، صارت تتهكم من الإنسان العادي، صارت تعتبر الموظف شخص فاشل؛ لأنه لا يملك مشروعه الخاص.

ولكن إن فكرنا في الأمر، نجد أن الحضارة والمجتمعات والدول تقوم على هؤلاء "العاديين" "التكراريين".

لماذا ينبغي أن تكون حياتي براقة حتى أرضى عنها؟

ألا يمكن للـ "عادي" أن يكون نجاحاً كبيراً جداً؟

ألا يمكن أن تكون صيحة انتشار الإيجابيين والطموحين هذه هي مجرد عدم قبول للواقع، وعدم رغبة في الالتزام الحقيقي بالتعامل مع ومواجهة هذا الواقع بشجاعة وواقعية.

كثيرون من هؤلاء صاروا يعيشون في السماء، يحلمون باليوم الذي يسافرون فيه إلى بلد ما من اختيارهم، ثم يصبحوا رجال أعمال ناجحين أو نجوم.

ولكني أجد القوة الحقيقية، والشجاعة الحقيقية، هي بالاشتباك مع واقعك، لا بأحلام اليقظة، وإنما بأن نتقبل كل ما نراه من قبح وننزل إلى معترك الحياة بقبضة حديدية.

لا نريد الهروب بوضع طموحات غير واقعية وبالغرق في المثالية والكمالية ووضع التوقعات المستحيلة، أبدأ حيث أنا واستخدم ما في متناولي وافعل ما أستطيع!

فما رأيكم؟ هل مرت عليك وهلة اكتشفت فيها أن طموحك هو هروب وليس رغبة حقيقية في تحقيق هذا الطموح؟ هل يمكن للطموحات غير الواقعية أن تكون مدمرة وسلبية؟