بداية أنا لا أؤمن بأي تقدم قائم على العلوم الطبيعية فقط، ولا أؤمن بإمكاتية إحداث تقدم في أي أمة بناء على تقدم أبنائها في العلوم الطبيعية، فالعلوم الطبيعية تحتاج لعوامل كثيرة لتزدهر، فهنالك مراحل ما قبل تأسيسية تتضمن وصفا وشرحا لمنهجية العلوم الطبيعية وهدفها ومجالاتها، كما أنها تحتاج لظروف سياسية وثقافية وفكرية ودينية في الأمة كي تزدهر، وهذه الظروف تشرحها وتؤثر فيها العلوم الإنسانية ونظرياتها، وبالتالي لا تقدم لأمة ما لم تنهض في كل المجالات معا، فمثلًا لا يمكننا أن نهتم بتعليم الطب والأحياء في دولة ما اقتصادها فقير لا يسمح بتعليم جيد ولا نظام صحي جيد ونظامها السياسي يقمع الأطباء وحقوقهم ويستغل الدين في جذب الجماهير في أمور مثل التطور، فيضع الدين في صدام مباشر مع العلم، ويستطيع جذب أغلبية الشعب ذي الثقافة الضحلة، ونقول أننا سنهتم بالعلوم الطبيعة ونبقي ما سواها كما هو عليه، فنتاج ذلك -في أقل التقديرات- هو حالة من الاغتراب والنفاق المجتمعي حيث نعيش في مجتمعات تؤمن بما لا تطبقه ولن تطبقه.

ويرجع ذلك النفاق إلى توقف خط سير الحضارة العربية بشكل عام منذ قرون عديدة، مع بدء عصر الشروحات والتأكيد على أن المتقدمين لم يتركوا لمن يأتي بعدهم شيئًا ليفكروا فيه، بينما كان أقرباؤنا من البشر في الغرب يفكرون ويجددون تراثهم مستعينين بكل ما تصل أيديهم إليه، لم يكن لديهم هذا الكبرياء الذي نملكه، ولا يعني التجديد إعادة إحياء الموتى كما يتوهم البعض، فعندما نسمع عن تجديد التراث وتجديد الدين وتجديد الخطاب الديني نجد أن الناس يرون ذلك التجديد عودة لحالة ما كانت عليها الأمة في الماضي، ولكن التجديد ليس طقسا لتحضير الأرواح، التجديد يعني إعادة النظر في التراث الذي تركه لنا الأجداد فربما قد فوتنا شيئًا أو اثنين ومن ثم نعمل عقلنا فيما نجده فقد نرى رأيا أفضل من رأينا الحالي في التراث وقد نرى التراث ببساطة لا فائدة منه بل هو على خطأ وننتقده ونأتي بالجديد، وسبب الانقطاع المعرفي عند العرب هو خوفنا من التخلي عن القديم.

لا أقول بالقطيعة مع التراث، ولكن أقول أن تجديد التراث يمكن أن يتم فعلا بالاستفادة مما وضع سواء بنقده نقدا بناء واستبدال الفاسد منه بنظريات من قبل ثثافتنا وحضارتنا، ولا ضير أن نستفيد من آخر ما توصل إليه البشر في كل المجالات، وهكذا كانت النهضة الأوروبية فلم يجدد الأوروبيون تراثهم بإحياء سقراط وأرسطو بل بمحاكمة سقراط وأرسطو، وكانوا في تلك المحاكمة مسترشدين بما أنتجه العرب في ذلك الوقت، وكانت نتيجة المحاكمة هي إدانة أرسطو -ليس أرسطو نفسه بل أرسطو الذي كان حيا بينهم بأقواله التي تنسب له- ولفظه وبدء البحث والتفكير عما هو أفضل وأنسب للواقع الجديد.

ومن إشكاليات الانقطاع أيضا هي إشكالية المعلم والتلميذ، وربما أجدها أساسية لتكمل ما قلته، فبعد انتقاد مفكرينا للتراث وتجديده والاستفادة من كل ما أنتجه الغرب خلال فترة سبوتنا في القرنين الماضيين، وأحب أن أسميهما الفجر العربي، فوجئنا بإشكالية أخطر وهي أن كل مفكر يأتي بعد هؤلاء يعيد اختراع العجلة، كل مفكر جديد يذهب مجددا للغرب ليلم قدر استطاعته بما أنتجه الغرب ثم يحاول إن استطاع ان يعود أيضا للتراث، ولأن أعمارنا لا تتعدى المئة غالبا فيموت وقد وصل لما وصل إليه من سبقوه، فالمشكلة هنا هي غياب علاقة التلميذ والمعلم التي نجدها عند فلاسفة الغرب، ففلاسفة الغرب تلاميذ لبعضهم البعض، يمكنني أن أكتب لك شجرة تلمذة لأي فيلسوف غربي تفكر فيه، وقد يعود هذا الغياب إلى افتقارنا للقدوة في ثقافة مهزومة، وقد نجد ذلك في أوروبا قبل عصور النهضة والتنوير، كان المفكر يأتي هكذا فلتة وقد لا يعقب تلاميذًا ولا يسبقه معلم واضح، واستمر الأمر مدة حتى بدأ الغرب يلتفت لمفكريه ويعطيهم حقهم ومكانتهم التي يستحقونها ويبدأ بالاهتمام بما ألفوه أكثر من اهتمامه بما ألفه العرب واليونان، فتبدأ الآلة بالعمل ويستمر الابداع جيلا بعد جيل، فنحن لسنا في حاجة إلا لعدد قليل من الأساتذة الأوائل، أولئك العباقرو الذين أنفقوا حياتهم من أجل شعوبهم فاكتسبوا قدرة على التعبير عن تلك المجتمعات تجعلهم في مرتبة قريبة من الأنبياء، فغياب أنبياء يعبرون عنا وايماننا بأنبياء عبروا عن قوم غيرنا هو سبب تخلفنا الأساسي، ولا اقصد النبوة بالمعنى المعروف، بل أقصدها مجازا للتعبير عن العبقرية الفكرية الاجتماعية، فنحن أولا نترك مفكرينا ونقلل من قدرهم ونمسك بأناس ماتوا منذ عدة قرون لا يكاد يجمعنا بهم شيء، لا واقعهم هو واقعنا ولا فكرهم هو فكرنا ولا أحلامهم هي أحلامنا، وينتج عن هذه النظرة المحتقرة لمفكرينا انقطاع معرفي عمن وصلوا المعرفة عند العرب، فمفكري القرنين التاسع عشر والعشرين العرب حاولوا وصل ما انقطع من معارف العرب وتراثهم وثقافتهم، وكانت النتيجة هي أنهم ماتوا ولم نعم نتذكرهم إلا في المناسبات ولم يخلفوا تلامذة لهم فانقطعوا هم عنا وذهبت جهودهم سدى، وأعقبهم مفكرون آخرون أعادوا اختراع العجلة وماتوا ولم يخلفوا ذرية ترث ما قد أنتجوه وتكمله وتنتقده وتهذبه وتجدده، وما زلنا في هذه الحلقة المفرغة يأتي مفكر ويموت ولا يعقبه تلميذ، وفي نظري هذا يعود للكبرياء العربي الذي يأبى أن يكون تلميذا عند عربي آخر عاش في نفس عصره، وسنستمر حتى اليوم الذي يقدر لنا فيه أن نحيا.

أعتذر عن أي أخطاء إملائية أو نحوية أو أسلوبية، فلم أراجع ما كتبته فقد كانت بضعة كلمات حضرتني وسجلتها قبل أن أنساها.