من الأعظَم قراءتُه وخَتمُه، والأجَلُ منه أن نفقَهَه ونطَبقه، فرُبَّ تلاوةَ دون فَهم، فمثلُه كمَثل الذي جَانسَ جُهدَ ذلك المُزارع الذي يزرع بُذوره مع نقص في سقيها. وبالتالي يصير جُهدنا مجرد إجهاد، تَقل معه الثَمَرة والإثمَار.

وقد صَدق قول الأستاذ سيد قطب حينما قال فيه: «إنَّ هذا القرآنُ لا يمنحُ كنُوزه إلا لمَن يُقبِلُ عليه» وقد أبدع في قوله الشيخ الغزالي، رحمه الله، حين قال فيه: «القرآن كتابُ تذكير إذا نسي الفكر، وكتاب إيقَاظ إذا نام القلبُ، وكتابُ تَسديد على الطريق إذا اعوجَّت الخطَى وزَاغ الإنسان عن سُواء السَبيل».

وهو مَربط الفَرس في البدايات والنهايات، وله حَلاوة وطَلاوة في وصف الوليد بن المغيرة لما سمع القرآن فقال فيه: «ءإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى». وقال فيه غيرنا من المعلم الفيزيائي مايكل هارت: «لا يوجد في تاريخ الرسالات كتاب بقي بحروفه كاملاً دون تحوير سوى القرآن الذي نقله محمد».

فبعزَته وعظَمته ومُعجزاته، أنه «لا يترك باباً لأن يلتَبس بغيره أو يشتَبه بسواهُ، ولا يُعطي الفرصة لأحد أن يعارضَه أو يحوم حول حمَاه، بل من خاصَمه خُصِم، ومن عارضَهُ قُصِم، ومن حاربهُ هُزِم». فصدق الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني فهذا قوله فيه.

قي زمن الصحابة اقتبسه منهاجاً ودُستوراً في الحياة، فإذا ما تعلموا نصاً تشريعياً حاولوا فهمه ما المقصد وما الغاية منه، ليس إلا، ليطبقه في واقعهم النفسي والفكري والتجاري.

يحُوزني في نفسي أن المغزى في الآية بعد قوله تعالى: «كُنتم خَير أُمَة أُخرجت للنَاس تأمُرون بالمَعرُوف وتَنهونَ عن المُنكر » (آل عمران: 110)، بدأنا بالتخلي والابتعاد عنه، صفة الخير التي وصَف بها الله هذه الأمة صرنا بعيدين منها كل البعد، ليس ميلاً بل أميَالاً، لسبب أو لآخر، ولا ربما لحاجة في أنفسنا، بدايةً من الأنانية في البحث عن الخلاص الفردي، وترويج لثقافة الجهد الأقل، مرور ببعض المعابر والطرق السهلة والمريحة، اعتقاداً أنه الطريق السهل والآمن لنيل المبتغى ورضا الله تعالى.

تغير مَفهومُ وجَوهرُ القرآن اليوم وللأسف، عند بعض المسلمين فتحول إلى ظاهرة صوتية تعبدية، يرددون آيَاته في أي زمان ومكان، من المنابر في المساجد إلى القبور، من آناء الليل إلى أطراف النهار، دون فهم حقيقي لمقاصده، أو تطبيقاً عملياً لتعاليمه.

فلا يغرنكم من قرأ القرآن، إنّما هو كلام نتكلم به، ولكن انظروا من يعمل به. فقد نجد من المرء من يقرأ أو حتى من يحفظ قوله تعالى «وبالوالدين إحساناً» (الإسراء: 23)، ولا يسارع إلى تطبيق وتفعيل هذا الأمر الإلهي، ونرى في آية أخرى «وكُلوا واشربُوا ولا تٌسرفوا إنهُ لا يُحبُ المُسرفينَ» (الأعراف:31)، تتلى في المَحاريبُ وقد يُصلي بها المرءُ أثناء صلاته، ثم نجده يجلس رفقة زوجته وأولاده على مائدة بها ملذات من طعام يفوق الحاجيات الضرورية، بل نصفها قد يكون مصيره القمامة، وغيرهم في أشد الحاجة إلى ذلك.

وكيف تقرؤون يا أرباب العمل قوله تعالى: «قل مَا سَألتكُم من أجر فهُو لكم، إن أَجرى إلا علَى الله» (سبأ: 47)، وفي قول آخر من قصة شعيب وموسى: «قَالت إن أبى يدعُوك ليُجزيك أَجر مَا سَقيت لنَا» (القصص: 25)، وفي هذين المثلين يتجلى بوضوح أن أجر العامل هو أهم التزام ملقى على عاتق صاحب العمل، فأين هم مما عرفناه من عوض المشقة أو جزاءً عن الخدمة.

وأحياناً قد تصلي وراء أو بجانب قريب لك أو عائلتك، والإمام يتلو على مَسمعكَ قوله تعالى: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون» (البقرة:188)،

وأنت تعلم علماً لا شك فيه أن هذا الخطاب موجه لقريبك الذي وصل جُوره وظلمه لإخوانه، ففوت لنفسه قطعة أرض كانت، أو عقاراً بالباطل والزور والرشوة.

والأخطر من هذا وذلك حين نقرأ قوله تعالى: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» (محمد:24)، أَولاً نستَوقفُ أنفسنا ولو للحظة وجيزة، كي نفهم خطورة هذا التوصيف.

من المُؤسف حقاً أن يكون مصيرُ القرآن في حياتنا يتأرجح بين التفعيل والتعطيل، فهو حاضر بشكل من الأشكال في طقوسنا الدينية التعبدية، لكن في مقابل ذلك نجده شبه غائب في معاملاتنا وأفعالنا وواقعنا.

ربما العلَّةُ مثل علة الذين قالوا هذا ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا، الإخفاق والفشل اليوم مسؤولية الجميع بدءاً من الأسرة والمدارس مروراً بالعلماء وختاماً بالإعلام، فلبنَاتُ الأولى والتي تكمُن في التنشئة الإيمانية هي الأساس، وهي مركز الثقل فإن صَلُحت نكون من الناجحين والمفلحين.

علمي إيماني اعتقادي يعلمُون علم اليقين أن قوة ديننا وكَمالهُ ويَقينَهُ تكمُن بطَانَتُه بكثرة قراءة القرآن واستماعه، مع التدبر بنية الاهتداء به والعمل به وبأوامره ونواهيه.

في مقامي هذا ما عسى إلا أن أقول لك أيها القارئ ما عليك إلا بتدبر القرآن حتى تعرف المعنى، تدبره من أوله إلى آخره، واقرأه بتدبر وتعقل، ورغبة في العمل والفائدة، اقرأه بقلب حاضر لا بقلب غافل، واسأل فيه أهل العلم والذكر وأولي الأمر عما أشكل عليك فيه، مع أن أكثره – بحمد الله – واضح للعامة والخاصة ممن يعرف اللغة العربية.

فهنيئاً لمن جعل غاية مُرَاده فهمَ وتدبُر آياته وتطبيقها على أرض الواقع، وبؤساً لمن حوله إلى مجرد ظاهرة صوتية لا تتجاوز أن تطرب المسامع والأذان.