24وبَعدَ ذلِكَ حشَدَ بَنهَدَدُ مَلِكُ آرامَ جيشَهُ وصَعِدَ إلى السَّامِرةِ وحاصَرَها. 25فأدَّى الحِصارُ إلى مجاعةٍ شديدةٍ، حتى صارَ رأْسُ الحمارِ بِثَمانينَ مِنَ الفِضَّةِ، ورُبعُ فَرْخ الحمامِ الأبيضِ بِخمسةٍ مِنَ الفِضَّةِ. 26وبينَما كانَ مَلِكُ إِسرائيلَ عابِرًا على السُّورِ، إذا باَمرأةٍ صرَخت إليهِ تقولُ: «أغِثْني يا سيِّدي المَلِكُ». 27فقالَ لها: «لم يُغِثْكِ الرّبُّ، فَمِنْ أينَ أُغيثُكِ أنا؟ أمِنَ البيدَرِ أم مِنَ المَعصرةِ؟» 28ثُمَ سألَها: «ما بِكِ؟» فأجابَت: «قالَت لي هذِهِ المرأةُ: هاتي إبنَكِ فنَأْكُلَهُ، وغدًا نأْكُلُ إبني. 29فطَبَخنا إبني وأكلْناهُ، وقُلتُ لها في اليومِ الثَّاني: هاتي إبنَكِ لِنَأكُلَهُ فأخفَتْهُ». 30فلمَّا سَمِعَ المَلِكُ كلامَ المرأةِ مزَّقَ ثيابَهُ وهوَ عابِرٌ على السُّورِ، فنظَرَ الشَّعبُ إليهِ فإذا على جسَدِهِ مِسْحٌ مِنْ تَحتِ ثيابِهِ. 31وقالَ المَلِكُ: «الويلُ لي مِنَ اللهِ إنْ بَقيَ رأْسُ أليشَعَ بنِ يوشافاطَ علَيهِ اليومَ»

سفر الملوك الثاني

أكل لحوم البشر عادة تتعدد أسبابها ولكن لا تختفي ظواهرها، في المقال السابق حاولنا تصنيف هذه الأسباب وإيجاد أقدم دليل موثوق على حدوث هذه الظاهرة، مع لقطات سريعة واجتهادات لغوية -لم تؤت ثمارها- وتفسيرات من عالم الحيوان.

الجزء الأول:

في هذا الجزء سنتحدث عن أكل لحوم البشر في التاريخ العربي، خيالًا وواقعًا، مع تصنيف أنواعه التي ظهرت وفقًا للتصنيفات التي ذكرناها، وإن تبق وقت سنتفلسف قليلًا في هذه الحوادث، الهوامش غير مرتبة في هذا المقال لأني جمعت فقراته دون ترتيب.

ما قبل العرب

في مصر القديمة ظهرت تعويذة تتعلق بأكل الفرعون للآلهة كي يكتسب قدراتهم جميعًا تعرف ب cannibal hymn، ولكنها لا تندرج ضمن حديثنا، بل قد نتحدث عنها في موضع آخر عن الميثولوجيا المصرية.

هنالك العديد من حالات أكل لحوم البشر التي سجلها التاريخ، منها ما قاله هيرودت عن القبائل آكلة لحوم البشر في معرض وصفه لقبائل نهر الهيبانيس [١] وهو نهر بوك حاليًا، ويبدو أن أكل لحوم البشر لدى هذه القبيلة يندرج ضمن تصنيف العادات والتقاليد.

وذكر عدد من المؤرخين عدة حوادث ارتبطت جميعها بالمجاعات، تغذى فيها البشر على بني جنسهم، كما ذكر ذلك أبيان في حصار نومناثيا أثناء حربها مع روما [٣] فقال:

بعد ذلك بقليل، استهلكوا كل ما يؤكل، لا حبوب ولا عشب ولا أسراب... بعدما فشلت محاولاتهم، بدأوا بسلق وأكل لحوم البشر، بدءًا بأولئك الذين ماتوا ميتة طبيعية، بتقطيعهم لقطع صغيرة صالحة للطبخ، واشمئزازًا من أجساد المرضى، بدأ القوى يضع يده على الضعيف، فلم يبق شكل من أشكال المأساة إلا وكان موجودًا هناك، فتحولت مظاهرهم لمظاهر الوحوش،بالشعر الطويل والإهمال والمجاعة والطاعون، فذهب طعامهم بعقولهم.

وقول أبيان يطلعنا على ما قد تفعله المجاعة بنفسية الإنسان، وما قد يفعله اختراق التابو بالإنسان، فيرى أبيان فيهم الوحوش نفسها، لما فعلوه من فعلة شنيعة، وانعكست على مظاهرهم، فاستنفار أكل لحوم البشر متأصل في النفس الإنسانية، التى ترى في ذلك قطعًا للخيط الذي يفصل بين البشر والحيوانات، وهذه أحد أسباب رفضنا لأكل لحوم البشر.

يقول يوسيفوس فلافيوس، المؤرخ اليهودي الذي تُنسب له الشهادة الفلافية، وهو قد يعد المعاصر الغير مسيحي الوحيد الذي ذكر يسوع، يقول أثناء حصار أورشليم بانتشار المجاعة, وذكر قصة بشعة عن امرأة تسمى ماري بنت العازر كان يضايقها الجنود ويأخذون طعامها وكان لها طفل صغير، حادثته بما يدور حولها وبالمؤامرات التي تحاك ضد اليهود، وما تفعله من أجله، ولذلك تطلب من رضيعها أن يكون طعامها، ويكون الغضب على أولئك الذين يقضون على اليهود، في مشهد عبثي تشوي الأم رضيعها، وتأكل نصفه، وتترك النصف الآخر، وعندما يجيئها الجنود تقدمه لهم فيرتعبوا، فتخبرهم أنهم لن يكونوا ارحم من أم على ابنها، وتطلب منهم أن يتركوا لها النص الآخر، فهرعوا للخارج يتخبطون، وانتشر الخبر في المدينة، وتمنى الأحياء الموت، وحسدوا الموتى على موتهم [٤]:

ما نُسب للأشخاص والقبائل

يُنسب لهند بنت عتبة أكلها كبد حمزة -رضي الله عنه- ولفظه في العديد من المرويات والقصص، وهي من القصص المشهورة وإن لم تأخذ سندًا قويّا، فأغلب التاريخ لا يتطلب سندًا بقوة ما كان في الحديث.

ويُنسب لسفينة مولى رسول الله شربه دماء الرسول، حيث قال البخاري في كتابه التاريخ الكبير (4/209)

احتجم النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال لي : خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير ، أو قال : الناس والدواب . قال : فتغيبت به فشربته . قال : ثم سألني فأخبرته أني شربته ، فضحك )

ويُنسب لعبدالله بن الزبير أحيانًا هذه الحادثة في السنن الكبرى (7/67) للبيهقي، وفي تاريخ دمشق (28/163) لابن عساكر، ويُتُنسب هذه الحادثة لسالم أبي هند الحجام أو مالك بن سنان في "التلخيص الحبير" (1/30)، ولمجهول، مما يدل على أن هذه الحادثة وقعت قطعًا، ويعترف بها البعض ويحتجون على حجة القائل بحرمة شرب الدم أن دم النبي طاهر شريف، ويجدون أنسب الأنساب تلك التي تنسب الحادثة لعبدالله بن الزبير [٥]

يقول الجاحظ في كتابه البخلاء [٢] في ذكره المذموم من الطعام بعد ذكر الخنزير :"وتهجا أسد بأكل الكلاب، وبأكل لحوم الناس. والعرب إذا وجدت رجلًا من القبيلة قد أتي قبيحًا ألزمت القبيلة كلها، كما تمدح القبيلة بفعل جميل، وإن لم يكن إلا بواحد منها... كما تهجوا بأكل الكلاب والناس وإن كان من رجل واحد، ولعلك إذا أردت التحصيل تجده معذورًا.

قال الشاعر: يا فقعسي لم أكلته لمه؟..... لو خافك الله عليه حرمه

....فما أكلت لحمه ولا دمه

قال الشاعر في هذيل:

وأنتم أكلتم سحفة ابن محدم...... زبال فلا يأمنكم أحد بعد

تداعوا له من بين خمس وأربع..... وقد نصل الأظفار وانسبأ الجلد

ورفعتم جردانه لرئيسكم..... معاوية الفلحاء يا لك من شكد

وقال حسان فيهم:

إن سرك الغدر صرفًا لا مزاج له.... فأنت الرجيع وسل عن دار لحيان

قوم تواصوا بأكل الجار بينهم..... فالشاة والكلب والإنسان سيان

وهجا شاعر بلعنبر ثوب بن شحمة:

عجلتم ما صادكم علاج.....من العنوق ومن النعاج

........ حتى أكلتم طفلة كالعاج

وقال الشاعر يهجو باهلة:

إن غفاقًا أكلته باهلة..... تمششوا عظامه وكاهله

وأصبحت أم غفاق ثاكله

وهجت أسد بذلك جميعًا، بسبب رملة بنت فائد بن حبيب... أكلها زوجها وأخوها أبو أرب، وزعموا أز ذاك من طريق الغيظ والغيرة، فقال ابن دارة ينعى ذلك عليهم:

ورملة كانت زوجة لفريقكم..... وأخت فريق وهي مخزية الذكر

أبا أرب كيف القرابة بينكم.... وإخوانكم من لحم أكفالها عجز

وقال عنها:

وباتت عىوسًا ثم أصبح لحمها.... جلا في قدور بينكم وجفان

قال الدبيري:

إذا ما ضفت ليلا فقعسيًا.... فلا تطعم له أبدًا طعامًا

فإن اللحم إنسان فدعه....... وخير الزاد ما منع الحراما"

ثم ذكر الجاحظ كلامًا عن أكل الخصي، وأرجعنا لكتابه "الشعوبية" إن أردنا المزيد، وكلام الجاحظ هنا بالغ الأهمية، فهو يرينا أصنافًا عرفها العرب، وفقعس أحد بطون أسد، وهم أكثر من اشتهر عنهم ذلك، فيقول لنا الجاحظ معلومة هامة جدًا وهي أن العرب يميلون للتضخيم، فالجاحظ نفسه لا يؤمن أن أسدًا كلها فعلت ذلك، بل يراه ضربًا من الشعوبية، فتهجى القبيلة بما فعله أحد أفرادها.

ويذكر لنا الجاحظ أكل لحوم البشر بسبب الغيظ والانتقام بأنواعه، وربما كان أحدها مجاعة ولكن لم يحدد لنا الجاحظ ذلك، ولا أدري صراحة ما "كتاب الشعوبية" الذي يشير إليه، ربما هو مما فقد من كتبه، أو أنه يشير لفصول كتبها في أول كتاب الحيوان وفي أماكن متفرقة، ولكنها لا تغني ولا تسمن من جوع في معرض حديثنا.

وكان ابن بطوطة ممن أكثروا في ذكر آكلي لحوم البشر، وأكثر من ذكرهم من القبائل الأفريقية السوداء، فيذكر تفضيلهم الأسود على الأبيض في طعامهم، فالأبيض نيئ، وأفضل اللحوم لحم الأنثى وأفضله الكف والثدي،

ويتضح ببساطة المخيال العربي لابن بطوطة، وحديثه الطبيعي عن هذه الحوادث وإن يبد خوفه منها يوحي بعلاقة غريبة بين العرب والسودان.

باب ما ذُكر في المجاعات

المجاعات كانت وستظل أكبر أسباب ظاهرة أكل لحوم البشر، من هذه المجاعات ما عرف ب" الشدة المستنصرية" و"المجاعة الكبرى" في مصر، منها ما ذكره المقريزي من غلاء في عهد المستنصر في كتابه إغاثة الأمة بكشف الغمة(٩)، حيث قال أن الجوع أوصل الناس إلى أكل بعضهم البعض، فكان البعض يجلس فوق بيته ومعه سلب وحبال بها كلاليب، فإذا مر أحدهم ألقوها عليه وشرحوه وأكلوه.

ويذكر المقريزي الغلاء في زمن السلطان العادل الأيوبي، فيتحدث عن كيف كان يأكل الأب ابنه مشويًا أو مطبوخًا، والمرأة تأكل ولدها، فكان يوجد بين ثياب المرء كتف صغيرة او لحمة، فيدخل بعضها إلى جاره، ويجد القدر على النار، فبعدما تتهيأ فإذا هي لحم طفل صغير، وكان ذلك في أكابر البيوت، وكانوا يقبضون في الأسواق والطرقات على أناس معهم لحوم الأطفال، وكانوا قد عاقبوا ٣٠ امرأة بالغرق، ويحكى كيف تزايد الأمر حتى الفه الناس، وقل التضييق عليه، ولا يمضي يوم حتى يؤكل عدد من البشر، واستمر ذلك حتى جاء الغيث.

وذكر ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة ثورة الزنج وهجومهم على البصرة، وكيف أدت المجاعة إلى فظائع فكان أهل البصرة يأكلون كل شيي، حتى البشر (٦)

قال: واستخفى من سلم من أهل البصرة في آبار الدور، فكانوا يظهرون ليلا، فيطلبون الكلاب فيذبحونها ويأكلونها، والفار والسنانير. فأفنوها حتى لم يقدروا على شئ منها، فصاروا إذا مات الواحد منهم أكلوه، فكان يراعى بعضهم موت بعض، ومن قدر على صاحبه قتله وأكله، وعدموا مع ذلك الماء، وذكر عن امرأة منهم أنها حضرت امرأة قد احتضرت، وعندها أختها وقد احتوشوها ينتظرون أن تموت فيأكلوا لحمها، قالت المرأة: فما ماتت حسناء حتى ابتدرناها فقطعنا لحمها فأكلناه، ولقد حضرت أختها ونحن على شريعة عيسى بن حرب وهي تبكي ومعها رأس الميت...إلخ

وذكر عدة مؤرخين مجاعة بغداد ٣٣٤ ه‍، فقال شاعر في ذلك الوقت:

لا تخرجن من البيوت.... لحاجه أو لغير حاجه

والباب أغلقه عليك.... موثقًا منه رتاجه

لا يقتنصك الجائعون.... فيطبخونك شورباجه

وذكر ابن الأثير في سنة ٣٣٤ ه‍ كيف كان الناس يأكلون بعضهم (٧) فقال:

وفيها اشتدَّ الغلاء ببغداد حتى أكل الناس الميتة والكلاب والسنانير [القطط]. وأخذَ بعضهم ومعه صبي قد شواه ليأكله. وأكل الناس خرّوب الشوك فأكثروا منه، وكانوا يسلقون حبّه ويأكلونه، فلحِقَ الناس أمراض وأورام في أحشائهم، وكثُر فيهم الموت حتى عجز الناس عن دفن الموتى، فكانت الكلاب تأكل لحومهم.

ويذكر ابن الجوزي حادثة في نفس العام (٨) فيقول أنه وجدت امرأة هاشمية سرقت صبيًا وشوته في التنور وهو حي وأكلت بعضه، وأقرت بذلك وأرجعت ذلك للجوع، وأخرى هاشمية أخذت صبية فشقتها نصفين وطبختها، وثالثة شوت صبيًا وأكلت بعضه.

ملاحظة: الرجوع للكتب أفضل من بعض المواقع، فذكر هذا العام في الكتاب الإلكتروني على أحد المواقع حُذف منه هذا الجزء على الأغلب لأغراض سياسية ما.

وذكر أمين معلوف في كتابه "الحروب الصليبية كما رآها العرب" فصلًا بعنوان "أكلة لحوم البشر في المعرة" يذكر فيه أحوال المدينة قبل وصول الفرنج في نوفمبر ١٠٩٨، وتشاؤم المعري الذي جاء في محاه، فما أن وصلوا لم تقدر ميلشيات المدينة عليهم، وإن حاربوا في بسالة، ودخل الفرنج المدينة وأعملوا في أهلها السيف ثلاثة أيام، ولكن لم تكن هنا المشكلة، فيذكر الكاتب تقوت الجيش الافرنجي على جثث المسلمين بعدما اجتاحتهم المجاعة، ويقول الكاتب أن المجاعة لا تفسر وحدها بعض تصرفات الفرنج، ومنهم جماعة "الطفور" التي كانت تجول فالارياف ترهب الناس بأنهم يودون أكل لحومهم -أعتقد أنهم كانوا فقط يحاولون إرهابهم بعدما انتشر عنهم أكلهم البشر في مجاعتهم، ويستشهد بألبير دكس، الذي يقول أنهم لم يكتفوا بأكل لحوم العرب والأتراك بل أيضًا الكلاب، وربما هذا أثر أكلهم الأول للبشر، فلحم البشر إدماني ولا يعطي شعورًا بالشبع -سنتحدث عن ذلك لاحقًا- كما أنهم يعبث بكيمياء المخ، بعيدًا عن عبثه بنفسية الناس، كما وضحنا في "كسر التابوه" بالأعلى.

## من الفتاوي

مسألة أكل لحم البشر عند الضرورة من المسائل المختلف عليها فقهيًا، فعند المالكية كما ذكر القرطبي في تفسيره ج 2 ص 229، انه لا يؤكل ابن آدم ولو مات، وعند الشافعية والزيدية يؤكل عند الضرورة إن لم يجد غيره، بل يجوز للإنسان أن يأكل جزءًا من جسده إن اضطر، وابن العربي: يؤكل إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه، وعند الحنفية:"إن لحم الإنسان لا يباح في حال الاضطرار ولو كان ميتًا، لكرامته المقررة بقوله الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (سورة الإسراء : 70) وكذلك لا يجوز للمضطر قتل إنسان حي وأكله ولو كان مباح الدم كالحربي والمرتد والزاني المحصن، لأن تكريم الله لبني آدم متعلق بالإنسانية ذاتها، فتشمل معصوم الدم وغيره، وبهذا أيضًا قال الظاهرية بتعليل آخر غير ما قال به الحنفية "

وعند الحنابلة قولان إما يجوز أو لا يجوز، لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، وكلهم معًا على ألا يُقتل إنسان لأكل لحمه، مهما كان دينه أو عرقه.

القليل من الفلسفة

أغلب ما ذكر اليوم قد يعده البعض من المبالغات، ولا اعتراض لدي على ذلك، فنحن لا نتحدث اليوم عن الحقائق، ولكن نتحدث عن "ما عرفه العرب" وما دخل في ثقافتهم وفكرهم وخيالهم، فكل هذا كان جزءًا من المخيال العربي، وجزء من الثقافة العربية، ما زال يتردد صداه في حكايات عديدة ك"أمنا الغولة" و "ماما فايلة" او "بابازدل" وكلمات مثل "سأشرب من دمك" بل في اللغة القرآنية ذاتها في الآية الكريمة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ"

نرى من عرضنا البسيط هذا أن في بعض الحالات تأكل الأم طفلها، ألا يجعلنا ذلك نعيد النظر في بعض مسلماتنا؟ دائمًا ما نقول أن عاطفة الام أقوى من أي شيئ، أو أن الأم مستعدة للتضحية من أجل طفلها، فهل هذا حقيقي؟ أرى أن هرم الأولويات الإنسانية لا يكفي لتفسير أي إجابة، فإن قلنا أن الأم دائمًا تضحي فلما نجدها قد تأكل ابنها أحيانًا؟ أم نقول أن هذه الضحية مشروطة، وتختلف من شخص لآخر؟ صراحة أقيس ذلك بعاملين، العامل الأول يعتمد على شخصية الأم ومدى حبها لطفلها ومدى تفضيلها لحياته على حياتها، وهذا العامل يتنساب عكسيًا مع مدى استعدادها لأكله أو "التضحية به"، والعامل الثاني هي القدرة التحملية للأم، فأنا أرى أن عذاب الجوع الطويل أصعب مليون مرة من القتل السريع، فقد تضحي الأم بنفسها بأن تلقي نفسها في النار أو تلقي بجسدها أمام رصاصات العدو، ولكن كلما كانت المعاناة طويلة، وكلما ازدادت مدتها مثل المجاعة، فهذا يزيد من نسب التضحية بالابن، وعلاقة طول المعاناة بالاستعداد للتضحية طردية، وعكسية مع العامل الأول، فكلما زادت مدة المعاناة اختلت هذه القيم التي تدعي الأم امتلاكها.

ويذكرني هذا ببعض إناث الشمبانزي الذي كانت تأكل أطفالها بلا سبب، فعلى ما يبدو أنه حدث اختلال في منظومة القيم الأمومية بدواع النجاة، ربما -كما ذكرنا في الجزء السابق- يرجع ذلك لتحول الشمبانزي تدريجيًا إلى مفترسات.

ذكرنا أن للعرب مظهر من مظاهر أكل لحوم البشر الطقسي، وإن ظهر في شرب الدماء فقط، وكانت دماء النبي المقدسة، التي تعطيك قدرات أكبر، وهذا لا يختلف عن أي أكل للحوم البشر طقسي نعرفه.

ووجدنا عند العرب أكل لحوم البشر للإنتقام والغيرة، كما في قصة هند بنت عتبة، ورملة، وهو ما يصعب تفسيره في ضوء ما نملكه إلا بكون هذا الفعل وسيلة للهيمنة تستعملها الحيوانات جميعًا، ومزروعة في عقولنا، حيث نربط بين الهيمنة والافتراس، مما يؤدي بنا لمثل هذه الظواهر، حتى نقول اليوم "سأشرب من دمك"

واتهم العرب بعضهم البعض بأكل لحوم البشر، وقد نلاحظ ذلك صراحة أو ضمنيًا في بعض النصوص، فقد كانوا يقبحون هذه الفعلة كثيرًا، حتى استغل الفرنجة ذلك بنشر الرعب في نفوس أهل المعرة، ولا ندري إذا ما كان الفرنجة ينشرون هذه الحكايات قصدًا، أم أن أكل لحوم البشر عبث بأدمغتهم حقًا.

في الختام

المقال يعد في الأساس نظرة وجب إلقاءها على تاريخنا قبل أي حديث عن الحاضر، لذا لم يكن الهدف منه الإمتاع أو التفلسف بقدر كونه تأريخًا وتجميعًا للمواد، وإن كان هنالك جزء ثالث أخير فسيكون عن بعض القضايا الشائكة ومحاولة استنتاج بعض الأنماط المرتبطة بهذه الظاهرة، أعتقد أن من عرضنا التاريخي البسيط يمكننا استنتاج نمط بالفعل يرتبط بتفضيل لحوم الأطفال على الكبار، وغيرها من الأنماط التي أتمنى منكم تسجيلها في تعليقاتكم، وأود الإستماع لأي اقتراحات عندكم للسلسة، والآن في نظرك، هل عرف العرب أكل لحوم البشر؟ ما أسبابهم؟ أم أن كل هذه القصص من المبالغات؟ هل ينتشر في محيطك أي مثل يتعلق بأكل لحوم البشر؟ أي قصة؟ هل ترى أكل لحوم البشر عند الإضطرار؟ أم أنك ترى أن تموت ولا تأكل لحم أخيك ميتا؟ وهل ستستطيع فعلًا مقاومة الجوع وتحمله؟ ألا ترى تلك الأمهات الجوعى ماذا فعلن؟ أعد التفكير في منظومتك الأخلاقية، والقيم العليا التي تقدسها، وبعض الأفكار التي تؤمن بها، وشاركنا ما تعرفه.

وداعًا.


[١]

[٢] البخلاء ص٢٣٤ نسخة دار المعارف، أو

[3]

[٤]

[٥]

(٦)

(٧)

(٨)

(٩)