عقدة الكتابة

حين تسألني عن أحب الهوايات إلى قلبي سأخبرك الكتابة ، أما أبغضها فأيضا الكتابة ، قد لا يكون الأمر منطقيا بعض الشيء ، ولكن إن كنت كاتبا ستفهم ذلك - ربما - ،حسنا قد لا يبدو الأمر عقدة خطيرة كتلك الخاصة بأوديب أو إليكترا ، - وحتى هاتان تشكلان مرحلة من النمو الفسيولوجي الطبيعي للانسان وأستغرب كثيرا لم قد أطلق عليها لفظ عقدة - ولكن بالنسبة لي فعقدتي هي أعمق وألطف ، من النوع الذي لا يزعجك وجوده ، الأمر مماثل لسجين طال حبسه حتى أعتاد العزلة والقضبان ، بل ألفهم ، حتى أنه إن تنسم عبق الحرية يوما سيتوسل إليك لكي تعيده ، لم تعد تزعجه القضبان ، إنها حريته الحقيقية ، وهكذا الكتابة ، أن تقع تحت تأثير سحر لا تريد لمخلوق أن يبطل مفعوله ، لقد كانت الكتب مخدرات لكاتبنا العظيم احمد خالد توفيق ، أما أنا فالكتابة هي مخدري ، ذاك الذي أتعاطاه لأسكن الألم كلما التهب بالداخل ، هكذا فقط تسلم نفسك لهذه الأوراق وتتجرد من كل زيف ، لا أحكام ، لا ضغوط ، لا نقاش او جدال حول ما تشعر ،وكم أثق بهذه الحفنة من الأوراق أكثر مما اثق بكثير من البشر ، انها لرياضة روحية من طراز أصيل .

إلى هنا قد يستغرب البعض ، مشاعر الحب هذه التي ذكرتها لا تنبئ عن أي عقدة ، فأين المشكلة إذا ؟ ، اذا أنت لا تعلم شيئا عن الانتكاسات الكتابية ، تلك الفترة التي يفقد فيها المرء شهيته للكتابة ، حين تضيع منه الكلمات ، حين لا يعرف طريقا لوصف ما يشعر به ، عقله فارغ ، هناك غبار من الأفكار ، لكنه مبعثر ، ولا يستطيع الامساك بأي منه ، ولعمرك إن هذا لتعذيب نفسي ، إنه كشعور طفل صغير معدم يقف خلف زجاج عربة المثلجات ، يتأملها ويسيل اللعاب منه ، لكنه لا يجرؤ على الاقتراب منها فهو لا يملك ما يكفيه من نقود -أو كلمات -.

وعلى النقيض أحيانا تكون الفوضى عارمة في عقلك ،وكأن الأفكار تتصارع حتى تطرح أولا ، وجميعها عشوائية ناقصة غير كاملة ، ومهمتك أن ترتبها وتنسقها وكأنك تنسج ثوبا لا تملك خيوطه ،وتلك مهمة لو تعلمون صعيبة.

ثم إن الأدهى أن يكون الكاتب مصابا بداء " المثالية " ، وانه لمرض عضال ، فتجد الناقد بداخله يلجم قلمه كلما خط حرفا ،يكتب سطرا ويمحو اثنين ، مدعيا بأنه حتما هناك الأفضل ، حتى ينتهي به الحال الى اعتزال الكتابة كليا ، ضاربا بعرض الحائط أي موهبة يمتلكها ، هو لا يثق حقا إن كان يمتلك موهبة ام لا ، من هو بجانب مصطفى محمود وطه حسين وتوفيق الحكيم ، بل من هو بجانب ديكنز وديستويفسكي ، مجرد حشرة ، ذرة غبار في مجرات الأدب الثري ، ماتراه يضيف لهذا الحقل الملغوم ؟ ، بل كيف تواتيه الجراة على الاقتراب منه ؟

ثم تأتي المشكلة التالية ، في المشاركة ، ذلك كابوس بالنسبة لنا - أو لي على الأقل - ، أن تشارك أحدهم شيئا خطته يدك ، كأن تسلمه قطعة من لحمك ، هي تعني لك كثيرا لأنها جزء منك ، ولكن بالنسبة له هي مجرد قطعة لحم كغيرها ، سيعلكها لمدة ثوان ثم يلقي بها باحثا عن أخرى ، الكتابة تجعلك دائما مكشوفا للآخرين ، أفكارك ، اعتناقاتك ، وربما بعضا من تجاربك الشخصية ، ثم إنك تقع في الحيرة الكبرى ، ماذا ستكون ردة الفعل ؟ ، ماذا إن لم تصفها بالعمق المفترض ، ماذا لو بدت أجمل في مخيلتك عنها في الورق ، ثم هل من المهم حقا أن يعلم أحدهم بها ، حسنا أنت تعيش في مجرة ضمن ملايين المجرات ، على كوكب ضمن عدة كواكب ، يحمل مليارات البشر ، أتعتقد أن قصتك الساذجة تلك ستحدث فرقا ؟ ثم إن المضحك أنهم لا يرحبون بصداقتك شخصيا في الواقع ، أسيصادقون كلماتك وتجاربك ؟

ولذا دائما ما أقول ان كانت الكتابة بحرا فأنا فيه الزبد ، وان كان للكتاب مقهى فأنا مجرد " صبي" هناك ، قد احتك قليلا بمن يجلسون من الأدباء، فتعلم الصنعة ، لغته ركيكة ، وموهبته محدودة ، لكن لا بأس ، هو يكتب فقط لأنه يريد أن يكتب ، ربما لن يشارك أحدا كتاباته حتى يتقن الأمر جيدا ، ولا يعلم حقا متى يحين ذلك ، ولكن حتى ذلك الحين ، سيظل يكتب ، وحيدا ، في الظلام، مع حفنة الأوراق ، حيث لا أحكام ، لا ضغوط ،لا جدال أو نقاش حول ما يكتب.

ملحوظة : هذه أول مشاركة في هذا الموقع وأول مشاركة لشيء كتبته في حياتي التي لا تتجاوز العقدين ، رأيكم في ككاتبة يهمني ، وأرحب جدا بالنقد البناء .