قصة البترول في البلاد النامية، مثل قصة علاء الدين والمصباح السحري، رمز شديد الحدة لما يستطيع النهم البشري أن يفعله في مجتمع من الرجال البسطاء. رمز للبطن المتورمة التي لا تستطيع أن تجعل عالم الإنسان مجرد كيس جلدي معبأ بالأطعمة المعلبة.

البترول ومصباح علاء الدين قصتان مضحكتان. والمرء لا يستطيع أن يغالب الضحك عندما تخطر بباله كل الجهود اليائسة التي بذلها الإنسان في قتال بطنه عبثاً.

خلال عام 1904 اكتشف أحد المغامرين منجماً للذهب في آلاسكا، تلك الصحراء الجليدية الموغلة في القبح عند القطب الشمالي، واشترى لنفسه فأساً وطفق يعبئ جيوبه بالذهب ويحتل مكان الصدارة في الحانات ويدفع حساب بقية الرواد.

وكانت الآسكا مجرد جحيم معبأ بالصيادين الفقراء بلغ من سوء سمعتها أن الولايات المتحدة رفضت أن تضمها إلى الاتحاد ست مرات خلال عام واحد. ولكن اكتشاف الذهب غيّر خطة واشنطن تجاه (الجحيم) بصورة تدعو إلى الإثارة، ثم غيّر خطط الآخرين أيضاً.

وخلال عامين فقط تضاعف عدد سكان آلاسكا ثلاث مرات، وحفر المغامرون ثلاثة عشر ألف منجم، وجاء من واشنطن خمسة آلاف خبير اقتصادي لخدمة الشركات، ونهضت المدن في وسط الجليد، وامتدت الطرق والسكك الحديدية والحانات على طول الدائرة القطبية، وامتلأت آلاسكا بالجثث والمسدسات والقصص التي تثير القيء.

ثم نفذ الذهب وعاد كل امرئ إلى بيته، ونقص عدد السكان ثلاث مرات، وغطى الجليد كل الطرق.. وعادت آلاسكا مرة أخرى جحيماً معبأ بالصيادين الفقراء والقواعد العسكرية. لم يبق شيء من سنين الإثارة.

لا شيء على الإطلاق سوى أشباح القتلى الذين فقدوا رؤوسهم في المبارزات القديمة عند مناجم الذهب.

وفي إيران اكتشف أحد المغامرين ذهباً أسوداً ودعاه البترول. حدث ذلك خلال عام 1906 وبعد ثلاثين عاماً أخرى كانت إيران رابع دولة منتجة للبترول في العالم بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وفنزويلا.

وجاء الخبراء كالعادة وتضاعف عدد السكان ونهضت المدن على مد العين، وفتح أحد الفقهاء دكاناً للكتابة العمومية ليبيع فيه الخطب الفصيحة بنصف ريال، وازدحمت ميادين طهران بالمستمعين، وتحدث الرجال الفصحاء ثمانية وثلاثين عاماً بلا انقطاع، ولم يقل أحد منهم إنه ارتكب خطأ ما أو وضع قرشاً في غير محله أو أساء التصرف.

أما الإحصائيات غير الفصيحة فما زالت تقول: إن نسبة الأمية في إيران تصل إلى 24% وهي من أسوأ النسب في العالم، وأن متوسط دخل الفرد يقل عن مائة جنيه في السنة.. وهو أيضاً من أسوأ الأرقام في العالم، وأن أراضي إيران المزروعة لا تتعدى 2% من المساحة الكلية، وأن إيران – بعد ثمانية وثلاثين عاماً من إنتاج البترول – تأتي في الترتيب السابع والثمانين بين دول العالم في نموها الاقتصادي.

أليس ذلك مثيراً للدهشة؟

الواقع أن أحداً لم يلق نقود إيران من النافذة. أعني أن أحداً لم يسرق تلك النقود ويخبئها في المحيط. كل ما حدث أن دخل البترول ابتلعته المشاريع الميتة وصار كوماً ميتاً من الحجر، أما الأرض والمصانع والاستثمارات الحية فلم يهتم بها أحد سوى الفقي صاحب دكان الكتابة العمومية.

والنتيجة أن ارتفع مستوى الدخل في إيران خلال العشر سنوات الأولى بمقدار الضعف ثلاث مرات ثم توقف خلال عام 1948 ثم طفق ينخفض أيضاً. ومن المتوقع أن يواجه ذلك البلد كارثة اقتصادية تضاهي ما حدث في آلاسكا قبل عام 1904 إذا فشلت ثورة الشاه الحالية ضد الإقطاع الرأسمالي، ومع ذلك لا تتركوا إيران تستدر عطفنا كله قبل أن نسمع قصة فنزويلا، إنها تملك 6% من بترول العالم، وتملك كل لؤلؤ البحر الكاريبي، ومخازن الذهب الهائلة تحت بحيرة (ماراكيبو) إلى جانب سبعين مليون طن من الحديد الخام في منطقة (البابو)، وجبلاً آخراً من الحديد في منطقة (كيرو بولفاروا).

إن فنزويلا بلد ثري من جميع الوجوه. والفقي الذي فتح دكاناً للكتابة العمومية هناك يعرف هذه الحقيقة أكثر من سواه، فقد كتبها في كل خطبة إسبانية فصيحة تردد صداها في شرفات (كاركاس) العاصمة، وكتبها بلغات المواطنين الحمر أيضاً.. كتبها بالفحم على الجدران.

وفنزويلا تنتج البترول منذ عام 1920 بهمّة تدعو إلى الإعجاب وتنتج الذهب والحديد وبقية الأشياء الأخرى التي قررت شهرزاد أن تدعوها (مصباح علاء الدين) ومع ذلك.. أعني ورغم كل النوايا الطيبة وخطب الكاتب العمومي فإن الإحصائيات تروي قصة أخرى:

نسبة الأمية في فنزويلا 49%.

ثمة طبيب واحد لكل عشرة آلاف من السكان.

مائة وستون ألف مواطن يملكون 75% من الأراضي المزروعة، وبقية السكان – وهم ثمانية ملايين – يملكون 15%.

نسبة الأراضي المزروعة إلى مساحة فنزويلا كنسبة واحد إلى تسعين.

لا صناعة على الإطلاق سوى مصنع التبغ المحلي.

الماشية نقصت بمقدار النصف، من ثمانية ملايين رأس إلى أربعة ملايين فقط خلال الخمس سنوات الأولى من بدء إنتاج البترول.

متوسط دخل الفرد مائة وسبعون جنيهاً في العام.

فنزويلا تأتي من حيث نموها الاقتصادي في الترتيب الخامس والستين بين دول العالم.

أليس ذلك مدهشاً؟

الواقع أن أحداً لم يلق نقود فنزويلا من النافذة، أعني لم يسرقها ويخبئها في المحيط، كل ما حدث أن دخل البترول ابتلعه بناء (كاركاس)، بناء الأورتيوريوم المرمري وحدائق لاغوريا وتماثيل النحاس في سان كريستول والرواتب ونفقات الشرطة وصدقات رئيس الجمهورية على الفقراء.

وقد نسي الخبراء في فنزويلا بقية الأشياء الاخرى، ونسوا أنهم معرضون للموت في شوارع كاركاس إذا قررت الولايات المتحدة أن تكف عن شراء بترولهم كما حدث خلال عام 1950، ولم يتذكر أحد تلك الحقيقة القديمة حتى طلب الرئيس جونسون من وفد فنزويلا في الأمم المتحدة التصويت لصالح إسرائيل أو يمنع عنهم الخبز.

وأعطى الوفد صوته كما أراد الرئيس، ونسي القصة مرة أخرى على عادة الفرسان الإسبان القدماء، فالمرء – في فنزويلا أبيض القلب على الدوام.

نهاية المطاف..

أن البترول ومصباح علاء الدين قصتان مضحكتان، وأن كلاً منهما يستطيع أن يحيل – في لمحة عين – عجوزاً بدوياً نصف متحضر إلى عارض لأحدث الأزياء ويجعله أضحوكة تبعث على السأم، ويغريه بالجواري ووسائد ريش النعام. فإذا ضاع المصباح اكتشف علاء الدين أنه مازال شحاذاً في سوق بغداد.

ونهاية المطاف:

يا إلهنا! هل ستترك ذلك يحدث في ليبيا.

الصادق النيهوم

1968