.

بقلم :نضال السالمي

.

أكتشفُ كلّ يوم أنّ بداخلي عداءً دفينًا للتّعليم : أشعر على الدّوام أنّه واحد من أعظم أسباب الجهل والحمق عكس ما يعتقدُهُ النّاس حتّى أكثرهم ذكاءً أنّ التّعليم هو باب التّنوير والمعرفة.

وبالرّغم من بداياتي كتلميذ نجيب لا أتدحرجُ عن المرتبة الأولى في القسم إلّا نادرا.. حتّى أنّ معلِّمِي السّادسة إبتدائي كانوا يرسلون لي وأنا بالسّنة الثالثة ليطرحوا عليَّ الإشكالات الّتي عجز تلامذتهم عن حلّها ولا زال والِدايا يحفظانِ عن ظهر قلب كلّ الكلام الرائع الّذي سمعوه من المدرّسين الّذين مررتُ من أقسامهم.. ولولا خجلي وتقزّزي من الفخر والغرور لسردتُ تلك المدائح الّتي كنتُ أتلقّاها يمينا ويسارا وآنتهت عند أستاذي في الفلسفة في الباكالوريا الّذي كان يتوقّع لي النّجاح التامّ في إشعال ثورة عالميّة لا تُبقِي حجرا فوق حجر حتّى تغيّر العالم إلى الأبد.

.

في الحقيقة، يجب الإعتراف اليوم أنّي لم أكن أقومُ بأيِّ جهدٍ يُذكَر لأتفوّق في دراستي حين كنتُ متفوّقا قبل أن أبدأ حروبي التاريخيّة ضدّ كلّ شيء ومنها صنم التّعليم فتحوّلتُ بشكلٍ مريب من المرتبة الأولى إلى المرتبة الأخيرة ومرّت عليَّ سنوات كنتُ بالكادِ أحضرُ في القسم مرّة في العشرةِ أيّام.. وفي الخامسة ثانوي مثلا آنتهى العام دون حتّى أن أعرف أسماء زملائي في القسم.. وقد أرجَعَ النّاس ذلك إلى ضربةَ عينٍ حادّة قد أصابتني في الصّميم بسبب تلك الشّهرة الّتي كنتُ أحظى بها لتفوّقي الباهر وقال آخرون أنّ ذلك بسبب تلك الفتاة الرائعة الّتي أحببتُها فأصابني مسٌ من جنون فتُهتُ في الغابات الموحِشة وفي الجبال المُخيفة مُتحدِّثًا عنها للكواسر والوحوش وغرائب البراري وكانت أمّي تدلكني ليلا بمختلف الأعشاب والأدوية كي تُخفِّفَ عنّي الحُمّى والهذيان في حين كانت قريحتي تنطلق بأشعارٍ عظيمة أصف فيها تلك الأنثى الأولى بحياتي، تارةً أنّها البحار الّتي فاضت على رمال حياتي وطورا أنّها الأغاني الهامسة والبراري السّاحرة والأزهار النّاعسة في حدائق قلبٍ مُترعٍ بالشّغف إلى ما خلف الحدود البعيدة من وعودٍ ناعمة بأروع الكنوز والأمجاد.. وقال آخرون أنّ سبب إنحداري المُريب هو تلك الصّداقات الكارثيّة الّتي ربطتني بحبال غليظة إلى مجموعة من المتمرّدين على سلطة العائلة ونواميس المجتمع فكنّا ننطلق في الجبال والكهوف حول قريتنا الريفيّة فنخلط الكحول بالخلّ وسائر السّوائل العجيبة والمدمّرة فنشرَبَها ثمّ ننطلق في الهذيان فنتحدّث طويلا عن الحبيبات وعن سحر الضّياع في هذا العالم الدّاعر الّذي باعت فيه "أورسولا إيجواران" الكثير من حلوى الكارميللا على شكل حيوانات صغيرة، وفي عزّ ضياعنا ذاك ووعيًا منّا بأنّنا قد ضُعنا داخل الضّياع وأنّنا بالتّالي قد أضعنا باب العودة إلى أرض الواقع وأنّ تلك السوائل الخبيثة الّتي شربناها والّتي كانت كافية لقتل عشرين حصانا أو عشر جواميس قويّة.. تلك السّوائل قد أودت بنا إلى ماوراء الخيال حيث يبدو الواقع كنقطة صغيرة في عالم واسع من الظّلمات.. حينها فقط أذكر أنّ صديق مراهقتي وكان إسمهُ "المولدي" ينفجر باكيا وهو يقول : "آآآخ يا أمّاه، لقد جُنَّ آبنكِ إلى الأبد".. وتعاطفًا منّا كنّا ننخرطُ جميعا في موجة بكاءٍ حارّة حتّى أنّ آبن عمّي "خالد" وكان حينها أكثرُنا شراسة ينهارُ ضاحكا وهو يمسح دموعَهُ قائلا : "الآن نحن مجانين لا نعرف طريقا للعودة لا إلى العقل ولا إلى منازلنا.. ووحوش الجبل ستهبُّ ليلا لتأكُلَنا ونرتاح".. وكان كلامهُ هذا يثيرُ مخاوف المجموعة فيزدادُ بكائهم ويجتمعون حولي على آعتباري العقل المدبّر أو حكيمُ العصابة فأنهضُ لأقود سكَارى الوجود عبر أشدّ السُّبل وعورةً ومن بين أكثر فجاج التّاريخ غرابة فأميل بهم يسار العقل ثمّ أدور يمين الرّوح وأُزيحُ بأزهار قلبي ضبابًا قد غطّى أفقَ المسير حتّى تبدو قرية "السّوالم" من بعيد جاثمةً تحت جبال المجد كأنثى خرافيّة الجمال تمشّط شعرها بأمشاطٍ من حنين.

.

أنا نضال السّالمي.. بدأتُ حياتي كتلميذ نجيب جمع عبقريّة الذّكاء إلى رفعة الأخلاق ثمّ آنحدرتُ في السّابع عشر من عمري إلى حضيض العالم فعاشرتُ المجرمين والسّكارى والمرميّين في أسفل ذاكرة هذا العالم الدّاعر الّذي يجهل تماما أنّ دموع الفاشلين هي من تروي سنابل النّاجحين، وأنّ المعذّبين في الأرض هم فاكهة المعنى، والمشرّدين والتّائهين هم الجهة الأخرى من عملة السّعادة المُزيّفة... فآآآهٍ يا قلبي كم عرفتُ من مآسي.. وكم بكيتُ حتّى كاد قلبي أن يذوبَ وجدًا.. بكيتُ لأنّني لم أقتنع يوما منذ أصابتني بَرَكَة الوعي أنّني قد جئتُ لهذه الدّنيا لأكون الأوّل في القسم في حين يغرق البشر في كلّ مكان في أوحال القهر والفقر والضّياع.. دون أن يجدوا يدا تمتدُّ إليهم ولا حُضنا يواسيهم ولا دمعة تغسلهم من أدران العذاب.. ولأننّي كنت عاجزا عن مدّ يد المساعدة فقد قرّرتُ أن أعيش معهم ولهم.. وهكذا ضعتُ طويلا جدّا ضياعًا باذخ الأحلام، عميق الأوجاع حتّى بَدَت لي من بعيد وفي أفق ثوراتي الأنوار المتلألئة لإلاهٍ قد تجلّى بالرّحمات.. فقلتُ في أوج الظّلمات عسى ذلك يكونُ قبسٍ من نار فلعلّي ناظرٌ فيه فإمّا آتي منه بخبر أو واجدٌ على النّارِ هُدًى.. فمضيتُ إلى الله وهناك بدأتُ من جديد : كانت تلك ولادتي الثّانية.. وتحديدا منذ بدايات 2006.

.

يمكِنُني اليوم أن أقول بكامل الثّقة أنّ الدّراسة في حياتي لم تُفِدني تقريبا إلّا بالقليل القليل.. وأنّ جلَّ آمتيازاتي الروحيّة والمعرفيّة كانت بسبب ذلك الضّياع العظيم وتلك الآلام الّتي كانت : جبالا من الأحلام.. سيولا من الدّموع.. وحروبا ضارية من التمرّد العميق ضدّ هذا العالم الدّاعر الّذي باعت فيه أمّي الماجدة في سنوات الفقر المجيدة الكثير من السّجائر والبيض الطّازج لعُتَاة المجرمين في ميناء الصّيد البحري بسوسة..

وأمّي هي الجبالُ الشّامخات.. وأنا حصى الطّريق

وأمّي هي الغابات والرّوابي والأزهار.. وأنا ترابُ نَعلِها ورماد الحريق

وأمّي هي أنا... وأنا لا شيء.