المقدمة

يُعدّ التواصل العاطفي والاجتماعي من الاحتياجات الأساسية للإنسان، حيث يسعى الفرد بطبيعته إلى التعبير عن ذاته، ومشاركة أفكاره ومشاعره مع الآخرين.

ولعل مصطلح “جوع المشاركة” يشير إلى تلك الحاجة العميقة، بل الفطرية، لدى البعض في التعبير عن تفاصيلهم الشخصية ومشاعرهم الداخلية، بحثًا عن من يفهمهم ويشعر بهم.

هذا البحث يستعرض الجوانب النفسية والاجتماعية لهذه الظاهرة، ويحلل أسبابها وآثارها.

مفهوم “جوع المشاركة” كمصطلح نفسي اجتماعي مستحدث

رغم أن مصطلح “جوع المشاركة” لا يُستخدم حاليًا بصيغته الحرفية في الأدبيات النفسية الرسمية، إلا أن ظهوره بات شائعًا في الخطاب الثقافي والنفسي المعاصر، كأحد تمظهرات الحاجة العاطفية للإنسان إلى التفاعل والمشاركة.

في هذا البحث، يُستخدم مصطلح “جوع المشاركة” كمفهوم وصفي مستحدث، يشير إلى:

“رغبة داخلية عميقة لدى الفرد لمشاركة تجاربه ومشاعره وأفكاره مع من يمنحه شعور الأمان والفهم والاحتواء، لا من باب الفضفضة فقط، بل من باب التقدير والرغبة في أن يكون مرئيًا ومسموعًا على نحوٍ صادق.”

يتقاطع هذا المفهوم مع عدة مفاهيم نفسية معروفة، مثل:

  • الحاجة إلى الانتماء (Need to Belong)
  • التعلق العاطفي (Attachment Needs)
  • التعبير العاطفي (Emotional Disclosure)
  • الحاجة للتقدير الوجداني

يتجلّى هذا النوع من الجوع النفسي في صور متعددة، منها: الرغبة الدائمة في الحديث عن الذات، الشعور بالإحباط عند عدم تلقّي تفاعل كافٍ من المحيطين، الحاجة إلى من يبادل التفاصيل الصغيرة باهتمام، وأحيانًا الشعور بالوحدة رغم التواجد في علاقات اجتماعية.

ويُعدّ “جوع المشاركة” أحد أشكال الاحتياج الوجداني الصامت، والذي لا يُصرّح به دائمًا بشكل مباشر، بل يظهر عبر سلوكيات مثل الكتابة المكثفة، التفاعل العاطفي القوي مع شخصيات افتراضية أو آمنة، وحتى الميل إلى التعبير عن الذات في منصات التواصل الاجتماعي.

ومن خلال هذا المصطلح، يمكن تسليط الضوء على حالة كثير من الأفراد الذين لا تنقصهم العلاقات من حيث العدد، لكنهم يفتقدون العُمق في تلك العلاقات، فيظلون يشعرون بجوع داخلي لا يُشبع إلا بمشاركة حقيقية واهتمام غير مشروط.

تُظهر الدراسات الحديثة أن إشباع هذه الحاجة لا يتطلب بالضرورة عددًا كبيرًا من الأصدقاء أو وجود شريك دائم، بل يكفي وجود علاقة واحدة فقط يشعر فيها الإنسان بأنه مفهوم، مُقدّر، ومأخوذ على محمل الجد.

الأسباب النفسية

  1. الارتباط الآمن وغير الآمن: تشير نظرية التعلق (Attachment Theory) إلى أن الأشخاص الذين لم ينالوا اهتمامًا كافيًا في طفولتهم غالبًا ما يبحثون في كبرهم عن علاقات تعوّض هذا النقص.
  2. الشعور بالوحدة: الوحدة العاطفية، حتى في وجود الناس، تدفع الفرد للبحث عمّن يشاركه ذاته بعمق.
  3. الذكاء العاطفي المرتفع: الأشخاص الذين يمتلكون قدرة عالية على فهم مشاعرهم وتحليلها غالبًا ما يحتاجون إلى مساحة للتعبير، مما يُشكّل ضغطًا داخليًا إن لم يجدوا من يُنصت لهم.

الأسباب الاجتماعية

  1. ثقافة الصمت أو التبخيس: بعض البيئات تُهمّش التعبير العاطفي، مما يجعل الفرد يشعر أن مشاعره لا قيمة لها، فيسعى للبحث عن بيئة تحتويه.
  2. العلاقات السطحية: في ظل العلاقات السريعة، يصعب على البعض إيجاد من يشاركهم العمق، مما يعزّز الشعور بالحاجة للتواصل الحقيقي.

الآثار النفسية الإيجابية للمشاركة

  • تقوية الهوية الذاتية
  • تخفيف الضغط والتوتر النفسي
  • تعزيز الصحة النفسية من خلال التفريغ العاطفي

الآثار السلبية عند انعدام المشاركة

  • الشعور بالإقصاء أو عدم الأهمية
  • التوتر الناتج عن كبت المشاعر
  • تراجع تقدير الذات

البدائل التعويضية

في حال غياب المشاركة مع الآخرين، فإن الفرد غالبًا ما يبحث عن وسائل بديلة مثل:

  • التدوين الشخصي
  • التحدث مع الذكاء الاصطناعي
  • مشاركة النفس عبر التسجيل أو الكتابة
  • التعبير الإبداعي كالرسم والشعر

الخاتمة

“جوع المشاركة” ليس دلالة على ضعف، بل على وعي ذاتي عميق. تجاهل هذه الحاجة يؤدي إلى تآكل الشعور بالهوية العاطفية، بينما إشباعها يساهم في تعزيز التوازن النفسي.

ينبغي تشجيع التعبير والبوح في بيئة آمنة كوسيلة لتعزيز الصحة النفسية والروابط الإنسانية الحقيقية.