هناك دائما ثانية واحدة تفرق بيننا وبين التحول العظيم الذي قد يطرأ على حياتنا، هي تلك الثانية التي تسبق السقوط الحر في الحبل نتحول من كائنات يتملكها الخوف والذعر والملل، لأطياف هانئة نسجت من الأمن والفرح. هي الثانية التي تفصل امرأة أقدمت على جريمة شنعاء في حالة خدر ذهني تام أمام مشهد خيانة زوج منحته الروح قبل الجسد، لتتحول من سيدة محترمة تحمل معها طموحات ومشاريع كبرى لمجرمة تقضي أبهى سنواتها خلف القضبان. هي الثانية التي تسبق القرار العظيم بالهجرة، ثانية تحولك من ابن بلد وصاحب ميراث يحيط به السند والعزوة من كل جانب إلى غريب بعيد تحاصره نظرات الشك.

هناك دائما ثانية تفصل مرحلتين كبيرتين من حياتنا، نتمنى لو أنها تطول أكثر من ذلك لنتوقف ويتوقف الكون والخلق، نلقي نظرة متمعنة لما مضى وما سيأتي، هي الثانية التي تأكلنا الحسرة على رجاء العودة إليها فلا تعود.

لا يوجد في الحياة مجال لتكرار الشيء، ولا للإعادة، ولا وجود للبث التجريبي، حياتنا هي نقل مباشر دون حصص تدريب واستعداد، أنت بمجرد ما أن يقرر والداك في ليلة بهجة وأنس أن يأتيا بك لعالم البشر هذا، حتى يتم تشغيل قمرك الصناعي وتنطلق قناتك في بث مباشر تكون أنت فيه الممثل والمخرج والمنتج والكومبارص. لا شيء يتم تعديله ولا حدثَ يمكن اجتزاؤه في المونتاج ولا مرحلة يمكن تقديمها على أخرى ولا كلمة يمكن إرجاعها للبلعوم ولا حسرة يمكن شطبها. كتاب من حجر تخط فيه القصة بمعاول من حديد، لا تختفي القصة ولا ينقرض الحجر.

إننا ككائنات حية تستهلك كل موارد الكون لتستمر، نعيش بمبدأ ساذج جدا رغما عن عبقريتنا المزعومة، بأن القادم دائما سيكون أجمل، نحمل قناعة الخير الحتمي في ما سيأتي ونمضي نحوه بيقين كامل في أن الأحداث المستقبلية ستكون أفضل مما هي عليه الآن بدون شك. وهو، بالمناسبة، اعتقاد يمنح الجماهير المتعبة قليلا من العزاء لتحمل هذه الحياة، وعود اعتدنا سماعها ونحن بذور يافعة تنتظر مياه الري، ثم أتقنا ترديدها على مسامعنا لتخفيف مرارة الفشل والألم والجبن والتردد. ومن ثم تحول الأمر كله لمسرحية هزلية تروي حركة نزوح جماعية للبشر المقهور نحو المستقبل الجميل الذي يحمل الخير والفرح والفرج. أخالط زملاء وأصدقاء ينتظرون المستقبل الواعد كما ينتظر عاشق صادق إطلالة حبيبته، فالحاضر الذي يتآكل بين أيديهم متحولا لماض لا سلطة لهم عليه أنهكهم، والعزاء كل العزاء في القادم الجميل الذي لا يعرفون عنه شيئا. تفصلهم عنه اللحظة المجيدة التي يقررون فيها الانتقال لضفة أخرى، غالبا يتمنونها ضفة السعة والوفرة والهناء. غير منتبهين أن كل تلك الأماني هي مجرد وهم نخدر به أنفسنا متغافلين عما نملكه حقيقة وهو الوقت المستقطع بين الراحل والقادم.

قبل سنوات مررت من تجربة قاسية جدا لا داعي لذكر تفاصيلها، كانت مقصلة نحتت شخصا جديدا لا يشبه القديم إلا في تفاصيل باهتة، كانت نتيجة قرار كبير اتخذته، أدرك جيدا أنها لحظة هلع وخوف وحيرة واهتزاز، فأنت صاحب السلطة دون سواك، وما سيترتب عن هذه اللحظة هو ما سيرافقك حتى فنائك ولا مقدرة لك بعد ذلك على محو شيء أو هدم آخر. غير أنها في الوقت نفسه لحظة قوة وتحكم وتحديد مصير، شعور امتلاك الحق في الانتقال وفي تقرير الوجهة المقبلة الممتعة رغم اقتضابه