يؤلم الواقع العربي الكاتب والمدوّن أكثر ممّا يؤلم أي شخص آخر، فالكاتب شخص يتوق إلى ترجمة تلك العاصفة الهوجاء من الأحاسيس داخله إلى حروف مطبوعة ومكتوبة يقرأها الجميع ويشارك بها رأيه مع الجميع.

في ظل الديكتاتورية التي تعيشها دول العرب، وجد الكاتب العربي نفسه محطّة لزوّار الفجر فقط لأنه يعبّر عن رأيه بكل أريحيّة.

الأحكام والأعراف والتقاليد والدين كلّ هذه العوامل كانت سبّاقة إلى تقويض فكر الكاتب في الأيام الغابرة لبدأ الديكتاتوريّة العربيّة بعيد استقلال هذه الدول من مستعمريها (ولم تكن كذلك في الأزمنة الأقدم)، فتعرّض الكثير من الكتّاب إلى هجومات عنيفة من شخصيات بارزة بسبب كتبهم ومقالاتهم.

نجيب محفوظ الكاتب العربي الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل للآداب يتعرض لمحاولة اغتيال في أكتوبر 1994 بشيء حاد كاد أن يذبحه وهو شيخ في الثمانينيّات من العمر، ومن السهل تكهّن السبب وراء ذلك فقد كان الكاتب محلّ سخط الدائرة الدينيّة وخاصة الأزهر بعد إصداره لروايته الأشهر "أولاد حارتنا" والتي منعت في مصر من التداول وصدرت فتاوى بتحريمها ووصل الأمر بالبعض إلى استباحة دم محفوظ كما فعل الشيخ عبد الحميد كشك والشيخ عمر عبد الرحمن. المشكلة هنا هي وبعد مرور عقود على رواية أولاد حارتنا، مازال الكثير يحاولون تزيين ما قام به محفوظ من اسقاط للأنبياء وللإله في شخصيات في روايته الأشهر (وقد نفى محفوظ ذلك)، في محاولة منهم لدرء تنقيبه في قبر الدين المعصوم من الخطأ في عقولهم، (وفي محاولة منه هو شخصيّا للحفاظ على حياته بعدما قال أنه لم يسء للإسلام ولم يحاول نبش أي طابوه بروايته تلك)، في تجلٍّ واضح لمستوى المثقفين المعاصرين الذين لا يقدرون على الحكم على الأمور من الناحية الأدبيّة و النقديّة دون المرور على معتقداتهم الشخصيّة، والأمر هنا لا يختلف عن ذلك الشاب الذي حاول اغتيال نجيب محفوظـ، فقد سؤل إن هو قرأ الرواية وأجاب بالنفي.

ويكفي التهليل بعبارات فارغة فتأتي القطعان خلفك.

محمّد محمود طه، لعلّ قصته المأساويّة من أفظع التراجديات التي وقعت بسبب الكتابة الحرّة. كانت لرؤية محمود طه للإسلام أثرا عميقا في نفوس العامة التي تحرّكها الأجندات السياسيّة للحكام، فجميع الحكّام العرب بعد الاستقلال إلى الآن، يستعملون هذه الورقة الرابحة التي لا تهترأ في وجه كلّ من يخالف الأجندات السياسيّة الخاصة بهم أو يجلب الأنظار إليه فتُمسّ بذلك مصالحهم. فيستعملون من المحيط إلى الخليج الدين لتأجيج الشعوب ضد أشخاص معيّنين. فبعد أن طرح طه فكرته الخاصة حول الاسلام، إذ قسّمه إلى مكي ومدني ودعا إلى تبنّي المكي المليئ بالرحمة وترك المدني المختلف عن المكي كليّا، حكم على طه بالاعدام بسبب "رأي" مثله مثل أي رأي مختلف آخر وأعدم في عام 1985 بتهمة الردّة.

نوال السعداوي. أكثر كاتبة معاصرة محبوبة ومنبوذة من الكثير. عرفت نوال السعدواي بمعارضتها لنظام الحكم في مصر ولكلّ أنواع الظلم الذي تتعرض له المرأة في العالم عامة وفي المجتمعات المتخلّفة خاصة. وقد نُقلت من عملها كطبيبة في كفر طحلة إلى القاهرة بسبب أنها دافعت عن امرأة كانت تتعرض للعنف الأسري. دخلت السجن عدّة مرّات بسبب آرائها وكتاباتها، وفي عهد السادات تمّ تقنيع سبب سجنها بأنها تتآمر على الدولة، وقد خرجت من السجن في عام 81 لتكتب كتابها "مذكراتي في سجن النساء" وكانت السعداوي تكتب في السجن مستعينة بقلم ترسيم الحواجب وورق الحمّام مهربين. وقد قالت في هذا الصدد"كسّرتُ الحديد بالكتابة".

سعيد جاب الخير. مدوّن جزائري صنع الجدل لوقت طويل على اليوتيوب بسبب آرائه عن الدين. وقد رفع عليه أستاذ جامعي في عام 2021 دعوة قضائية بتهمة الإستهزاء بالدين. المفارقة هنا أن غريمه هذا أستاذ جامعي كان الأجدر به أن يردّ على جاب الخير بآرائه الخاصة وبحجج قويّة تقنع المتلقّي بأكادميّة محظة، وإن اللجوء إلى القضاء بتلك الطريقة المتسرّعة كان بسبب نقص ثقافة الحوار وروح المنافسة، أو ربما أن الأستاذ لم يكن واثقا من حججه، والتي يعرف القاصي والداني بأنها ستكون قويّة في قاعة المحكمة عندما يتمّ تدعيمها بالمادة 114 مكرر 2 والقانون رقم 1-9 المؤرّخ في عام 2001 والذي يحكم بالسجن من 3 إلى 5 سنوات على كل من يسيئ إلى الاسلام والرسل و"المعلوم من الدين"، وهذه الجملة الأخيرة هي التي قصمت ظهر البعير، فهي جملة فضفاضة قابلة للتمطيط وقابلة للتأويل وللاستعمال الكثير عن حق أو عن غير حق، والأجدر بالقوانين أن تكون واضحة التعبير واللغة ودقيقة دقّة لا بعدها دقّة لكي لا يتمّ استخدامها لأغراض أخرى. في نفس الوقت الذي لا تشير فيه نفس المادة إلى أي عقوبة تطال المسيئين إلى الدين المسيحي أو المسيحيّين الذين يعدّون الجماعة الدينيّة الثانية في الجزائر بعد المسلمين. وقد حكم على جاب الخير بثلاث سنوات سجن نافذة، وقد قال في مقابلة له مع احدى القنوات الأجنبيّة الناطقة بالعربيّة أن الحكم "سيفتح باب جهنّم في البلد وسينقل النقاش الفكري إلى ردهات المحاكم".

وقد ظهرت قوانين كثيرة في الدول العربيّة مؤخرا (بعد إجهاض الثورات العربيّة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) تسمح للسلطات باعتقال المدوّنين خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي أين يتمّ مراقبة هذه المنصات واجتثاث كل من يكتب تغريدة صغيرة ضد السطات الحاكمة الفاشية المنتشرة من المحيط إلى الخليج.