"أهديكم في هذه المشاركة مقطعًا من كتاب (علم نفس قرآني جديد) للدكتور مصطفى محمود. قرأت هذا المقطع منذ فترة وأسرني بجماله، فقد غمرتني مشاعر إيمانية وعاطفية رائعة، وكان سببًا لقراءتي للكتاب.. أترككم معه وأظن أنكم ستأسرون به مثلي.

كانا يتمشيان على النيل.. و الشمس تغيب في الأفق.. و النسيم يداعب أغصان الشجر , قال و هو يمسك يدها في حب:أتعرفين ماذا تحت قدمك الآن؟

قالت: ماذا تعني؟؟

قال: أتعرفين على أي شيء تقفين؟... إن تحت قدمك الصغيرة هذه أربع مدن و ثمانية عصور, عصرًا رومانيًا و عصرًا فاطميًا و عصرًا مملوكيًا و عصرًا تركيًا و عصرًا قبطيًا و عصرًا إسلاميًا و عصرًا فرعونيًا و عصرًا حجريًا. أكاد أرى المواكب تخرج في أبهتها و دروعها.... و أكاد أسمع صهيل الخيل، و جلجلة السلاح أكاد أرى الدم يسيل و الناس تختصم و تتصارع و تتزوج و تتاجر و تهاجر.. أكاد أرى الدموع تلمع على خدود ما تلبث أن تغدو تراباً، و أكاد أرى نظرات الغرور ما تلبث أن تأكلها الديدان. و المنتصر يرقد إلى جوار المهزوم، و القاتل يتمدد إلى جوار قتيله، و الهاجر الغادر ما يلبث أن يسحب عليه الزمن ستار الهجر فيغدو مهجورًا هو الآخر لا حس و لا خبر و لا أثر... أين ذهب الغضب؟؟ .. أين ذهب الجنون؟؟ .. أين رقد اليأس؟ أين نامت الفتن؟.. ماذا بقي من هذه النيران المشتعلة في الصدور؟

قالت له و هي ساهمة تنظر إلى التراب تحت قدميها: ترى هل يبقى شيء من حبنا؟ أم أننا ماضون نحن أيضاً إلى لاشيء؟

قال ضاحكًا: في عصر السرعة الذي نعيشه يكاد يكون الحب فستاناً تتعلقُ به الفتاة لمدى لبسة واحدة .. ثم بعد ذلك تتغير الموضة. قالت: هل هذا رأيك؟ قال: هذا حال أكثرُ الناس

قالت: وهل نحن من أكثر الناس؟ قال: كلُّ الذين تحت قدمكِ قد أقسموا- و هم يبكون- أن مابينهما كان شيئاً خاصاً نادراً ليس له مثيل

قالت: ألم يَصْدُقْ بعضهم؟ قال: نعم، أقل القليل .. الذين استودَعوا عند الله شيئًا. فالله وحده هو الذي يحفظ الودائع. و أردف و هو ينظر إلى السماء: الذين أحبوا بعضهم فيه .. و نظروا إلى بعضهم في مرآته .. الذين أفشوه أسرارهم.. وأسلموه اختيارهم.. فأصبح هو مرادهم.. هؤلاء أهله.. الذين هم إليه و ليسوا للتراب

قالت و هي ما زالت على شرودها تنظر في عينيه: و أين نحن من هؤلاء؟

قال و هو مازال ينظر إلى السماء: الكل يدَّعي أنه من هؤلاء.. لكن الزمن هو وحده الذي يكشف صِدق الدعوى! .. و لهذا خلق الله الدنيا، ليتميز أهل الدعاوى من أهل الحق. قالت: ألا ترى نفسك مُخلِصاً؟

قال: لست من الغرور بحيث أسبق الزمن إلى الحكم فما أكثر ما يُخدع الإنسان في نفسه.. و ما أكثر ما يُستدرج إلى ثقة في النفس مبالغ فيها ثم يأتي الزمن فيكذبه على لسانه، ثم أردف: الإخلاص، هو أخفى الخفايا و هو سر لا يطلع عليه إلا الله. و نحن نأتي به إلى الدنيا أو نأتي بدونه و لا يعلم سرنا إلا خالقنا. قالت و يدها ترتجف في يده: إني خائفة. قال و هو يمشى الهوينى: و أنا أعيش هذا الخوف الجميل.... خوف يدعونا و يدفعنا إلى إحسان العمل.. خوف لا يوجد إلا عند الأتقياء؛ لأنه خوف يحمي صاحبه من الغرور... ألم يقل أبو بكر الصديق: مازلتُ أبيت على الخوف و أصحو على الخوف، حتى لو رأيت إحدى قدمي تدخل الجنة فإني أظل خائفاً حتى أرى الثانية تدخل.. فلا يأمن مكر الله إلا القوم الضالون.

قالت: و لماذا يمكر الله بنا؟

قال: مكر الله ليس كمكرنا.. فنحن نمكر لنخفي الحقيقة, أما الله فيمكر ليظهرها و هو يمكر بالمدعي، حتى يُظهره على حقيقة نفسه، فهو خير الماكرين.

قالت: ألا توجد راحة؟

قال: ليس دون المنتهى راحة.

قالت: و متى نبلغ المنتهى؟

قال: عنده

(وَ أَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ) النجم 42"