همم، لا يمكنني أن اقول أنه لم تعجبني هذه الرواية، ربما شعرت ببعض الملل عند قراءة قصة قاسم، لا أعرف هل لأنني قرأتها مليون مرة قبل ذلك أم لأن الكاتب كان لديه نفس الملل ولذلك لم يكن لديه سوى أن يضعها بمللها، لا يهم.

رواية أولاد حارتنا، أحد روائع نجيب محفوظ، صدق أو لا تصدق هذه كانت أول رواية اقرأها له، لدي تحفظ بسيط على الكتاب القدماء، الرواية تدور أحداثها في حارات مصر، في زمن غير محدد، ولكنه يميل للقرب من القرن العشرين، يستخدم فيها نجيب محفوظ أسلوب إسقاط القصص الدينية على المجتمع المصري لإظهار بعض مشاكله المجتمعية والسياسية والدينية، فيبدأ بقصة الجبلاوي الجد الأكبر وأكبر "فتوة" في حارة الجبلاوي، التي بناها وسيطر عليها ب"نبوته" وحده عندما كانت مجرد صحراء، فهو جد كل الساكنين في حارة الجبلاوي حاليًا، وقديمًا كان أبًا لبضعة أبناء، منهم أدهم وإدريس، حيث يمثل أدهم رمز الإبن البار الضعيف الذي ليس لديه مميزات فعلية ولكن يعطيه الجبلاوي مميزات وتولي إدارة "الخراج"، بينما إدريس الإبن الأكبر والذي توقع الجميع أنه كان من سيتولى إدارة الخراج بعد الجبلاوي، ببساطة لم يعطيها له الجبلاوي فغضب على الجبلاوي وتجرأ عليه فطرده الجبلاوي، ثم بحيل إدريس تسبب بطرد أدهم، ليشكلا معًا أبناء حارة الجبلاوي وأحفاده الذين ستقوم عليهم قصص رحلتنا.

ولولا أن آفة حارتنا النسيان ما انتكس بها مثال طيب. لكن آفة حارتنا النسيان

تمر الرواية على قصص همام وقدري -قابيل وهابيل- بشكل رخيص، ثم يبدأ الجد مع قصص جبل ورفاعة -موسى وعيسى-، ثم تهدأ الأوضاع مجددًا مع قصص قاسم، وترتفع الأحداث لتصل إلى أوجها مع قصة "عرفه" حيث النهاية الصادمة المليئة بالمعاني العميقة، والتي يظهر فيها فعليًا نتاج نجيب محفوظ الفكري الحقيقي عندما يخرج من قيود قصص الأنبياء التي ربط نفسه بها، ربما لذلك كانت قصته لقاسم مملة، لانه أكثر من يعرف عنه وبالتالي كانت القيود عليه أكبر وبالتالي منعه من وضع بصمته أكبر، ولذلك كان عرفة هو بداية الأحداث بالنسبة لي.

رواية اولاد حارتنا رغم وقوعها في أجواء مصرية إلا أنها لم تركز أبدًا على الحياة الإجتماعية المصرية وأشكالها، اللهم إلا في جملة واحدة في الكتاب ككل وكأن الكاتب وضعها فقط "لحفظ ماء الوجه"، يبدو أنه وضع هذه الكلمات وساهم في نشر هذه الفكرة عن أنه كتب الرواية بعد أحداث ثورة يوليو 1952 فقط ليوهم الناس وهم أكبر وليبعد عنه شبهات أكبر لأنه كان يريد الدخول في أماكن أعقد بروايته تلك، ولكن يبدو أن إيهام الناس بأنه سيتكلم عن العسكر لم يأت ثماره فأكتشف في النهاية الأزهر ما يرمي إليه ومنع نشر روايته فور إكتمالها، يبدو أنه كان فاشلًا في الخداع والكذب، يا أخي لم يستطع أن يقنع احد بانها كانت تتكلم عن العسكر أصلًا.

"الفاتحة للعسكري .. قلع الطربوش وعمل وليّ"

رواية "أولاد حارتنا" يليق بها أكثر أن تكون رواية عالمية إجتماعية دينية، لا تلق بالًا أصلًا للعسكر ولا غيرهم، يبدو أن إهتمامات نجيب محفوظ كانت دائمًا عالمية، الرواية تعالج قضية الصراع الديني/السياسي، بشكل مبسط وسهل يوضح مشاكل وحلول ومشاكل أخرى وحلول وإقتراحات، فيبدأ بقصة الجبلاوي ليمثل السلطة الدينية -الله- وقص قصة خلق سريعة جدًا فقط لحفظ ماء الوجه، ثم تبدأ الأحداث الحقيقية بين صراع الشر والخير السخيف بين أدهم وإدريس، وهمام وقدري، والحكاية فعلًا تبدأ مع قصة جبل وتكون أول سلطة عصبية متعصبة لقوم بشخصهم وتبيان أول وسائل الوصول للحق وهي القوة، ثم تأتي قصة رفاعة لتبين ثاني وسيلة استخدمتها البشرية وهي الرحمة وهي الوسيلة التي لم تستطع هزيمة الفتوات، وثالث وسيلة وهي الوسطية التي أيضًا لم تقض على الفتوات، لتنتهي الفتوات على يد وسيلة جديدة لا تستمد شرعيتها من الجبلاوي، بل تتجرأ عليه، وهي العلم، وتنتهي الرواية بقتل عرفة للجبلاوي دون قصد وندمه الشديد وقضاءه على الفتوة ويصبح هو الفتوة الجديدة ثم يموت ويستمر الإيمان بين الناس أن الجبلاوي عائد وعرفة فعل الصواب، في مشهد سريالي بديع يقشعر الأبدان، وهكذا ينتهي أحد المشاهد التي لن أنساها طوال حياتي والتي ذكرتها باقتضاب حتى لا افصح عن أسرارها الحقيقية.