عادة ما يبدأ أي حديث عن الإلحاد بين العرب -الناطقون باللغة العربية- بأسماء مشهورة مثل ابن الراوندي أو أبي العلاء المعري أو أبي بكر الرازي، ولكن أيا من هؤلاء لم ينفي وجود إله يوما، بل كانوا وفق مصطلحات العصر "ربوبيين" أو "لا دينيين" بينما يبدو أن أول ملحد عرفه العالم العربي كان إسماعيل أدهم- ولد عام 1911م- الذي تعرفت عليه في هذه الرسالة القصيرة -أشبه بمقالة- والتي نشرت في أغسطس ١٩٣٧ في مجلة الإمام -النسخة التي وصلتني تحت عنوان "لماذا أنا ملحد"

تبدو هذه الرسالة كرسالة تبريرية وجودية، فيبدو المؤلف في موقف المدافع عن نفسه، فمن أول جملة يؤكد على أن تربيته الدينية لم تكن الأفضل، وأنها كانت من أهم الدوافع السيكولوجية لتركه الدين، وهو في نظري هنا رجل شجاع مخلص في ما يعتقده فهو لم يحاول إخفاء الأسباب السيكولوجية لإيمانه أو عدم إيمانه -وهو لاحقا يقرر الإلحاد كعقيدة- وهو ما نجده نادرا عند المؤمن والملحد سواء، فكلاهما يتستر باسم العقل والدين وينسون أو يتناسون العاطفة والوجدان.

ثم يمضي الكاتب فيما يشبه السيرة الذاتية المختصرة، فيتحدث عن والده السلفي الذي كان سببا في وجهة نظره السلبية للدين بما كلفه من مشاق منذ صغره -ما اعتبره تمهيدا لثورته على الاسلام-، وشقيقتاه المسيحيتان مسيحية عقلانية لا تؤمنان بالمعجزات وغيرها من الخرافات، ونشأ بين الكتب وطالع أساطين الفكر منذ طفولته -ما دل على نبوغه، وانتقل إلى الأستانة مع والده مدة ثم عادوا إلى مصر وقد نضج فكريا إلى حد ما، وسافر إلى تركيا ودرس الرياضيات بالجامعة وأسس "جماعة نشر الإلحاد" التي انتشرت انتشارا جيدا -على حد تعبيره، ثم سافر إلى روسيا ليكمل دراسته للرياضيات والطبيعيات النظرية، فنال الدكتوراة في الرياضيات البحتة من جامعة موسكو والدكتوراة في الطبيعيات النظرية، وانتهت حياته الحافلة بالأحداث وقليل من الانحرافات الفكرية بأن وجد إسماعيل أدهم غارقا في مياه المتوسط عام 1940م واعتبرت حادثة انتحار -وهو السيناريو الذي يدعمه الاكتئاب الذي أصابه آخر سني حياته-

ومن أسباب إلحاده العلمية والعقلية:

١- أول الأسباب كان نظرية التطور لداروين -النشوء والإرتقاء- والتي كانت دافعه الأول تاريخيا أيضا، فعندما فرض عليه أبوه الإسلام كان رده أنه "أنا أؤمن بالنشوء والإرتقاء"

٢- نبذ حرية الإرادة معتمدت على سبينوزا وغيره، ونبذ عقيدة الخلود، وربما هذا إحدى دوافع انتحاره

٣- الاعتقاد أن سبب الكون يتضمنه الكون في ذاته وأن ثمة لاشيء وراء هذا العالم، وهو تعريفه للإلحاد بجعله عقيدة إيجابية وسلبية.

٤- فكرة الله من الرواسب الفكرية القديمة التبريرية فلا تستقيم أي من الحجج التي وضعت لإثبات وجود الله

٥- رفض الحتمية السببية، وليس رفض السببية مطلقا، بل رفض السببية الحتمية واستبدالها بالاحتمالات الرياضية، فالعالم كله يخضع لقانون الاحتمال وبالتالي قانون الصدفة -تبدو كقفزة منطقية- والتي يعرفها تعريفا رياضيا مختلفا قليلا عن التعريف الشائع الذي يرى الصدفة "جهل بالأسباب الفعلية"

يعيد تعريف السببية على أنها "صلة إمكان بين شيئين يخضعان لقانون العدد الأعظم الصدفي. ويضرب مثالا على ذلك زهر النرد فيرى ان السببية هي العلاقة بين ظهور رقم ما على النرد والزهر.

٦- هنالك أسباب سيكولوجية وأسباب أخرى لم أذكرها سهوا أو كسلا -أنا المتحدث هنا-

في النهاية يقرر اسماعيل أدهم حقيقة هامة في هذه الرسالة وهي أنه سعيد، على عكس المتوقع ووجهة النظر السائدة عن الملحد التي يحاول المؤمنون نشرها وكأن سبب إيماننا هو أن نبقى سعداء فقط -حدثني عن الإفيون- فهو يؤكد للناس على أنه راض عن حياته وسعيد بما توصل إليه فيقول "أنا ملحد ونفسي ساكنة لهذا الإلحاد ومرتاحة إليه. فأنا لا أفترق من هذه الناحية عن المؤمن المتصوف في إيمانه" وهو يبدو كذلك أيضا في نهاية رسالته في إيمانه بأن الصعوبات التي تمنع وصول أفكاره للناس صعوبات شكلية، والزمن وحده قادر على إزالتها، فهل أزالها الزمن اليوم؟ وهل سيزيلها قريبا؟ أم أن تلك الصعوبات ليس صعوبات شكلية كما كان يعتقد؟

أعتذر عن مستوى الموضوع كتابة وفكرا فلم أعنه اهتماما كافيا وأنا أكتب مصابا بأرق لعين.