لم نخلق لنظل في القاع للأبد

خريف

فصل يشبه الرحيل

كل شيء كان عبارة عن وهم جميل والآن حان الوقت لتجرع مرارة الحياة

الصندوق الزجاجي المعبأ بآلاف الإنجازات وعلى الرف الخشبي تقبع هناك جوائز وميداليات تستريح بعد ذلك العمل المضني. ينظفها بين الحين والآخر يمسح عنها الغبار ثم يغسلها بدموع الأسى التي تخففه عنه ذنب الفشل.

يجلس في الزاوية يسند ظهره لكرسيه الخشبي ملقيا بكل تعبه عليه يمسك بكلى يديه رأسه الذي أصابه الصداع النصفي ثم تقع عيناه المثقلتان بعبرات ليلة أمس على علبتين من الحبوب المهدئة التي ما عادت تنفع لشيء.

ربما لم تكن ذات مفعول من الأساس أو أن عبارتها الإعلانية كانت لتشعرك

بالراحة من خلال توهم أن الأمور على ما يرام

فالأوهام كفيلة لتجعل الواقع إما جحيم لا متناهي أو جنة من الخيال

وللآن لا يزال يجهل سبب صداعه الدائم قد يكون لإفراطه في النوم بحيث لا يتنازل لينام أقل من إحدى عشر ساعة رغم إيقانه أن المعدل الطبيعي الذي ينصح به الأطباء لا يتجاوز التسع.

نهض متجها نحو النافذة التي تطل على شاطئ البحر مشاهدا منظر الغروب الذي يدمي لطالما كان يكره أن يبصر ذلك مؤمنا أن الحياة ستنتهي

بائسة عن قريب.

اللون الأحمر الذي يعكس على وجه الماء لتبدو الشمس كأنها تغرق فيه و كلما انغمست أكثر تتسلل لمسامعه استغاثات خافتة لا ينصت لها أحد غيره

زفر في الهواء في محاولة فاشلة لتجفيف تلك الدموع التي تطالب بالتحرر فقد أتعبها التكدس في داخله المتهالك

لاحقا التقط كما من الأوراق من أعلى مكتبه ثم راح يحدق فيها مطولا كانت مفعمة بالأحرف تدب بالحياة بعكس ما هي عليه الآن

باهتة كأن شعلتها انطفأت وبريقها زال

الآن ازرا عالق ما بين الوهم والواقع. يخيل إليه أنه قد كبل بقيود الفشل للأبد

إنه يائس

استبده الحزن والكآبة فأقفل على نفسه بين جدران منزله الباردة التي لم تعلق عليها أي صورة لعائلته أو أصدقائه القدامى

.

جلس على الأرض وراح يجهش بالبكاء.

أخيرا عفا عن نحيبه الداخلي.

وصمته المبجل

أصبح مجرد أسف انتحر في مقدمة فمه

بكى حتى تورمت أجفانه

وما الجدوى من نحيبه المثقل هو يدرك أنه لن يجد نفعا حتى ان كان يريحه فيما مضى اضحى الآن عاجز عن رفع ثقل الحزن عن كاهله

آلام النفس تنفذ إلى الجسد ....

أو هكذا يتلقى الأوامر من أعلى.

أن تقدم يا جسد وإحمل عن النفس

آلامها

تعذب يا جسد وأصرخ وإياك أن

تكف عن الإحساس بالألم

والشكوى منه وإلا إنهار صاحبك

عادل صادق

استيقظ في اليوم الموالي وهو يشتكي من اضطراب في معدته وألم في بطنه

قلونه العصبي مرة أخرى

أخذ يبحث عن علبة الحبوب اللعينة التي كانت تخدر وجعه في مضى. رغم أنه لم يعثر على شيء استمر في محاولاته اليائسة ثم قرر استدعاء صديقه ويليام

تناول هاتفه كي يتصل به عدة مرات لكنه لم يتلق الرد ربما لعدم كونه ثريا كما في السابق.

كان وجعه يتفاقم باستمرار حتى أطرحه أرضا

حاول الوقوف متداركا لعله يثأر بحل يوقف مهزلة جسده لكن رجلاه لم تطاوعاه على ذلك

جلس وأسند ركبتيه لصدره ضاما نفسه حتى يخفف من وطأة الوجم ومرارة المغص الذي عذبه

بطريقة أو بأخرى يدرك أنه وحيد لدرجة لا يكمن أحد ليخبره أنه ليس بخير. لم يعد بوسعه فعل أي شيء سوى أن يغفو أو يترقب أن يصبح على ما يرام.

بالكاد كانت تتسع حجرته لذلك الجسد المرهق

كأنما ثقل العالم حط فوق قلبه

تسارعت نبضاته وضاق تجويفه الصدري كأن ثورة اندلعت وراء عظم القص

ظل يتنفس بعمق حتى يهدأ نفسه ثم لاذ بالفرار نحو الخارج حتى يسترد الهواء الذي فرغ منه

كانت ملامحه تعكس وهنه وتوحي بشقاوة ما صادفه

لم يتمكن من ضبط رجفة عضلاته وارتعاشها

إضافة للدوار الذي تملكه

سعى جاهدا كي يبث الهدوء داخله لكن حتى الحروف أبت أن تكسر قيود الكبت لتشق طريقها

كان مليئا بالتحيرات حد التخمة

كل شيء قضى في لمه عمرا أضحى الآن مجرد رماد

رواياته ستستعمل أوراقها لمسح الزجاج أو إزاحة الغبار لا أكثر

مجرد التفكير في الأمر يفقده صوابه

أصبح عاطلا عن العمل بإمكانه أن يجول كل زقاق وكل شارع حتى منتصف الليل لكن بجيوب فارغة لا تحوي قطعة نقد

ربما سيطلق عليه مفرد حر لا تقيده عقود عمل ولا اتفاقيات تبرم وتوقع

مثلما كان يشتهي

كانت أقصى أحلامه أن يكسر قوانين الطبيعة ويتمرد على نظام العادة

يتناول عشائه في الواحدة صباحا

يرتشف من كوب قهوته الساخنة الخالية من السكر في تمام الرابعة فجرا وفي الظهيرة

يطمح ليبقى في مكان هادئ ينغمس في الصمت ويتأمل لبرهة من الزمن دون أن يقطع سباته مكالمة هاتفية أو رسائل نصية

لكن الأمر جاء مخالفا لكل أمنياته

بات مجرد فاشل ينهكه تذكر كونه كاتب ناجح فيما انقضى

وفي كل مرة فكر في اعتزال الكتابة ظانا أنها الطريقة الوحيدة التي تجعلك ترضخ لآلامك وتعايش كل شيء دعوت لتنساه مجددا

كانت تنهمر الأفكار والجمل منه كالسيل الذي يأبى التوقف

في هذه اللحظة يدرك أنه كان أحمقا ليتخذ قرارا كهذا أشبه بالمهزلة

رغم ذلك لا يوقن أن بوسع المرء فعل أي شيء

إن بترت يدك وأنت عازف لن يمنعك الأمر من أن تعيش موسيقاك

لا تزال تملك يدا أخرى بإمكانك أن تتعلم العزف بواسطتها

والآن يجدر على ازرا أن يقتفي أثر نوتاته الخاصة حتى يشكل معزوفته

لقد اشتاق لذلك حقا

في الطريق بينما كان يقطع الأرصفة عائدا لحجرته صادف مبنى صغير يحوي طابقين في أعلاه توجد لافتة

مرحب للجميع

وقف لوهلة متسمرا في مكانه ثم أخرج يداه من جيوبه

فكر مليا ليحادث نفسه

قد تكون رسالة القدر إلي

حينما تظل دربك أو تقع من أعلى جبل

لن تر سلالم النجاة

قد يخيفك أن تتسلق إحداها لأنك ببساطة تظنك أنك ستتداعى مجددا ثم تتلاشى

تجاوز هذا

الآمال التي تتخذها خيبات فيما بعد

وحدها كفيلة لخلق فرص أخرى تدفعك للنجاة

لم يتمالك ازرا نفسه ففضوله كان يقوى أكثر و أكثر.

من صاحب المحل؟ماذا يقصد بالجميع؟

ربما الخائبين أو بعض العاطلين عن العمل

طرق الباب مرة لم يلبث كثيرا حتى قابله عجوز يبدو في صحة جيدة

ذو ملامح مطمأنة كسلام بحد حرب طويل ليسأله ازرا بلهفة دون أن يتردد

_من الجميع ؟

فإبتسم الشيخ قبل أن يجيبه

_الجميع دون استثناء.تفضل

_إذن هل ستخبرني عن ملامح الأسى على وجهك ؟

ضحك ازرا سائلا إياه

_هل الأمر يبدو كثيرا ؟

لم يكن يتصف بالاكتئاب الباسم وجه يبتسم و أعماق تحترق بل كانت هيأته تشي بالعوالق داخله

رفع يداه محاولا تصفح معالمه

هنا تورم عيناه وبعض التجاعيد و انتفاخ أجفانه

الشيب الذي بذأ يغزو شعره و لم يتجاوز الثلاثينيات بعد

إضافة لشروده المستمر و صعوبة التركيز

كل شيء كان يتراءى

على كل حال لا يستطيع أن يكتم أكثر

_أترى القمم المرتفعة المباني العالية

لم أخشاها يوما معتقدا أني لن أقع أبدا لكن فجأة انزلقت أو ربما سقطت سقوطا حرا

لم يتمم جملته حتى ابتسم ابتسامة الهزيمة تلك

أجابه الشيخ بنبرة بين ثناياها تحمل البعض من التعاطف

كانت لغته الانجليزية صعبة بعض الشيئ لم يكن يتحدثها بطلاقة وهذا ما لفت نظر ازرا

_أتعرف قصة عباس بن فرناس إنه عربي مثلي

حاول التحليق عاليا و أثناء مخاطرته بالأمر

لفظ آخر أنفاسه

بالأحرى لقد وقع

أكيد سيتهيأ لك الأمر أنه محض هراء لا أكثر ينتهي بالموت

لكن لاحقا بفضله تم التطرق لاختراع الطائرات و صناعتها و أصبح بإمكان الكل أن يطير

إذن سأعترف لنفسي أنها تضحية بالرغم أني لن أصل ذرة من جسارته لأقدم على ذلك

و فيما تتمثل الشجاعة بالضبط ؟

ليرد ازرا مستهزئا

_محاولة طيران

_ لا بل أن تتحد مخاوفك واحدة تلوى الأخرى حتى تتجرد من حجمها و تتقلص لتبلغ منتهى العادية

وجهة نظر أو فلسفة تعتنقها في الحياة

تضحية أو إقدام المهم أن تسع

ثم نهض ازرا و ابتسامة تعلو وجهه

_شكرا سأعود مجددا

_مرحب بالجميع

عاد ازرا أدراجه

السماء كانت مرصعة بالنجوم و القمر يتوسطها هناك.

الزرقة و الصفاء و اللون الأرجواني الذي يضم الأزرق ليتحدا

رفع رأسه ونظر كأنه أخيرا عفا عن نفسه

لقد حقق الكثير لم يتبق سوى خطوة واحدة لذلك يؤمن أنه سيتمكن من فعل ذلك و أفضل مكان لاستجماع أفكاره كان الشاطئ

لشدة حماسه لم يلبث كثيرا حتى بلغه.

جلس على مقعد خشبي و أسند ظهره إليه حتى يبدأ بتمعن المكان و هدوئه. لم يكن يتواجد الكثير من الناس سوى عائلة صغيرة من أربعة أفراد و البعض من الرفقة التي كانت تبدو عليها الإرهاق كأنما هرعوا حتى يقذفوا بهمومهم و أتعابهم في عرض البحار

صوت الأمواج و هي تتعالى و نسيمها الذي ينعش

الحصى و الرمال التي تريح قدماك من التعب

كان كل شيء يدعوك لتتوقف لبرهة من الزمن

و تتذكر أن عليك أن تحي لا تتواجد.

كان يتسائل داخله كيف لمكان هادئ كهذا يحيي السخب داخله

ويعلن الفوضى و التمرد

وحدها الأصوات الصارخة و الرنين المستمر الذي يقوى في مسامعه كفيلان حتى يفسدا بقايا أمله

ظل يسعى مطولا يفكر كيف يبتدأ كتاباته لكن طوال هذه الفترة كانت جوارحه تعدم الجواب

فالأدب يعدم المنطق

حتى المجانين بوسعها الكتابة بعكس الرياضيات التي تقدس القواعد و القيم حتى

أنها تستدعي ثوابت و متغيرات أحيان تصقل النتيجة و أحيانا تعدم لتصبح صفرا

من أجل الثأر به

تشيد آلاف العمليات

عجز ازرا عن استحضار إلهامه حتى يكتب

كان فكره مبعثر و صداعه قد ابتدأ

منتصف الليل

الوقت المثالي كي يستيقظ اللعين داخله

كان مرهقا لدرجة لا تصدق حتى أن عيناه بدأت تنغلق من تلقاء نفسها وصفوه تعكر.

يستحسن عليه العودة إلى الديار فلأمر باء بالفشل

بأسنان تصطك و أوصال ترتجف راح يقتفي طريقه

يقع مرة ثم يحاول النهوض مجددا كأنه ثمل من التعاسة

منظره و هو يتلاشى يدفع بك للبكاء حقا. ظل يقاوم حتى بلغ عتبة منزله ثم وقع لفرط إرهاقه

غفى فجأة إلى غاية ما لطفحه برد الصباح. كانت مؤخرة عنقه تؤلمه إضافة لمفاصله.

فتح الباب ليدخل غرفته و ألقى بنفسه على سريره كي ينام مجددا

تمنى في تلك اللحظة أن لا يبصر الضوء أبدا

و حينما استيقظ أوصد أبوابه جيدا و أغلق كل نوافذه

قرر أن يندثر أو يحول للعدم موقنا أنه لن يهتم بشأنه أحد

قاربت الساعة أن تكون التاسعة مساء حتى سمع طرق يدا تلامس بابه

إتجه بخطوات خائبة يجر أقدامه بتثاقل ظانا أنه يتوهم

أزال القفل ليقابله وجه ذلك العجوز مجددا

_أنجوت من محاولة الطيران؟

ابتسم ازرا يائسا _كلا لم أفعل

تفضل رغم أن البيت مبعثر

_لا بأس الفوضى هي من تخلق الحياة

_لا بل الحياة تدفعك لتصبح كذلك

_وجهة نظر

انتاب ازرا الفضول من أين للشيخ أن يعرف مكانه؟

نظر له العجوز ثم حادثه قائلا

_أتسأل أليس كذلك؟

_كيف تهيأ لك هذا

_ملامحك

أعرف أنك كاتب قديم قرأت كل رواياتك

زرقة السماء, الملائكة, لنحترق,ذرائع.

و أكثر ما دفعني لقراءتها مجددا كلماتك

أنت تلامس دواخل الإنسان حينما تكتب

بعد كل كتاب تلوته عشت مع فصوله وجمله.

لقد استوطنني كل حرف من عباراته لدرجة أني فكرت فيه مطولا

جان بطل زرقة السماء كيف أدرك أنه مستعبد وكيف نجا من ذلك المهجع ؟

ماذا عن إليزا هل تغلبت عن المرض أم أنها انتظرت أن ينتهي حتفها ؟

ازرا أنت مبدع آمن بهذا

إن انقطعت عن الكتابة لفترة لا يعني أن لا تكتب مجددا

بمقدورك فعل ذلك اروي لنا عن فتورك و كآبتك هذه

أسرد لنا كيف أنك تنام كل ليلة و فيما تخمن و لماذا أنت متخم بالحيرة ؟

بوسعك حتى أن تتخيل

غادر زنزانة الوحدة هذه أنت تستحق أن تتنفس

كل صباح لم تغف فيه بعد اتخذه حفلة سهر لا أرق

و الآن سأعود أدراجي عدني أنك ستحاول

لا تيأس ازرا نحن لم نخلق لنظل في القاع للأبد.

الكلمات تتدافع في مخايلته تحاول التحرر فقد سأمت أن تبق مكبلة

كأن النور ينبثق من جوفه

هاهو يكسر القيود

و يتنفس مثل المرة الأولى التي خط فيها جمله

أخذ دفتر الذي تلقاه هدية من أول معجبيه, نقش عليه بالانجليزية

Y E S Y O U CA N D O I T

نعم بإمكانك أن تفعل

تناول قلمه الحبر و بدأ يكتب

سمائي نجومي

المآسي التي تجرعتها يوما

فشلي و حتفي لذي وقفت تقديرا له مطولا

لطالما آمنت أني سأظل في القاع للأبد دون أن تبصر عيناي ضوء خافت أو شعلة أضيئت بالخطأ

لقد سمحت لللعناء بالتفاقم حتى بت أجهل إن كنت سأقاوم

كل ليلة تملكتني فيها الغبطة و كبلني الأسى ظننت أنها لن تنقضي قبل أن تأخذ بروحي

و الآن

أسفل هذه السطور

أكتب لأخلق فرصة للحياة لبرهة من الزمن

أعيد طلاء حياتي بدلا من اللون الرمادي الباهت

و إن كنت أسعى للحرية يوما سأحرر تفكيري من القفص سوف أفعل

ظل يرسم الأحرف و يلاحق أثرها ليرتشف عطرها

كان سعيدا نسي شقائه و حزنه المكدس نسي حتى من يكون

تماما كتلك اللحظة التي تفتح فيها عيناك ثم لوهلة تتوقف عن الإدراك

تسأل نفسك من تكون ؟ ما اليوم ؟

صحيح أن الأمر لن يستمر لجزء من الثانية لكنه مريح حقا

بعد أن أتمم كتابة عدة صفحات أحس أن يداه تورمت لأنه لم يمسك بالقلم منذ زمن

زفر في الهواء لكن هذه المرة ليست تنهيدات أو آهات بل صوت أصدره لفرط حماسه

الآن يوقن أنه بخير أو أحسن مما سبق

حينما ينتهي الشتاء القارس و يحل الربيع سيمحى من ذاكرتنا أننا أصبنا بنزلة برد لن ننس تحديدا لكن لحظتها لن نستشعر الألم مجددا

فالنسيان لا يعد عدم تذكر الأشياء لا بل أن نستحضر ذكراها دون أن تضطرب أنفاسنا أو تنقبض قلوبنا

دون أن تستوطننا تلك المشاعر مرة أخرى لذلك بعد أن تغف لاحقا لن تأبه لساعات الأرق التي تملكتك و لا نحيبك طوال الليل.

الأمر الذي دفعك لذرف الدموع يوما يصبح نكتة تصيبك بفرط من الضحك

المآسي التي تجرعتها ذات مرة تعتبر أحداث هامشية تدفعك لتواصل الحياة

على نحو غريب أو لغاية ربانية

تمارس طقوسك مجددا روتينك يستمر لا شيء يتوقف.

أعد ازرا قهوته و فكر بإضافة قطعة سكر كان مزاجه على نحو جيد و صفوه لم يعكر

كان مبتهجا ليفكر في فعل ذلك.

ابتسم لسذاجة تفكيره ثم تذكر العجوز

_كدت أنسى سأخبره أني نجحت.

أنهى ارتشاف كوبه, خرج راكضا بعد أن غير ملابسه.

وصل للمبنى. وقعت عيناه على تلك اللافتة

مرحب بالجميع

ليتحدث داخله _الحياة قدر

إن تقاطعت طرقنا يوما سيكون لدافع معين

الرب لم يلاقينا عبثا و إن أدركنا يوما الغاية وراء كل هذا لعجبنا من عظمة تدبيره

طرق الباب حتى كاد أن يخلعه لشدة حماسه

قابله ذاك الوجه الذي يشعرك بالارتياح فور رؤيته

_سررت بابتسامتك

_تقصد رؤيتي

_ بل ابتسامتك بشكل أخص

ضحك ازرا من أعماقه

أطلعه الشيخ على كل غرف مبناه

في الطابق السفلي غرفة جلوس تحوي أريكتين إضافة لطاولة خشبية تقابلها مكتبة صغيرة على رفوفها كتب كثيرة

فرنسية انجليزية حتى العربية

ثم سلالم مطلية بالأبيض بجوارها يقبع المطبخ و في الطابق العلوي غرفة موصدة و أخرى للشيخ إضافة للحمام

انتاب ازرا الفضول بشأن تلك الغرفة حتى أن العجوز تغيرت ملامحه فور بلوغها لكن حاول أن لا يظهر ذلك فتفهم ازرا الوضع

سأله بنبرة طفل

_ألن نشرب القهوة ؟

_بالتأكيد سنفعل

حضر الشيخ القهوة و ناوله إياها

_كيف تسير الأمور ؟

_ستكون أول من يتلو الرواية التي سأصدرها عن قريب

هل فكرت بالعنوان؟

_أنت تستحق السعادة YOU DESERVE THE HAPPINESS

_أدرك ذلك I KNOW THAT

ثم ضحكا مطولا

_ سأخبرك بشيء لنقل أنك خليل الهموم

أتريد الإنصات ؟

أجاب ازرا قائلا

_بالطبع

_قبل سنتين بالتحديد كانت تمكث معي حفيدتي تدعى جيمري تبلغ السادسة عشر من العمر

في بداية الأمر أقامت في الميتم بعد أن فقدت والدها أي ولدي أما والدتها غادرت منذ زمن لم يسمح لي أحد بأن آخذ وصايتها لكون أمها على قيد الحياة

في وقت لاحق لم تعد تتسع لها تلك الجدران الباردة التي لامست رأسها في كل مرة تملكتها النوبات كانت تفقد سيطرتها

فكر ذوي السلطة بمعالجتها عن طريق إدراجها في المصح نظرا لتصرفاتها الغريبة

كانت تتخذ زاوية الغرفة مكانها التي تقيم فيه تنام على الأرضية و تردد أن المأساة ستنتهي عن قريب

لذلك بعد أن إتخذو قرارا بشأنها دون إخباري بذلك

لاذت بالفرار قبل أن نفذ الحكم و تعدم حريتها

لم تقصدن بعدها بقيت في الزقاق و الشوارع تنام على قطعة كرتون تقاوم مثلها

تتسول باقي اليوم حتى تظفر بقوتها الذي لا يكفي حتى تشبع بطنها

حتى صادفتها مرة كانت تبدو كملاك قصت أجنحته و ما عاد بوسعه أن يحلق

ملابسها المهترة البالية التي تمزقت و نحافتها.

بجسد مرهق لن يقو على الصمود أكثر

وقعت

تلاشت أمامي كورقة مصفرة في فصل التلاشي نثرتها الرياح أرضا

انطفأت و بهت بريقها و ها هي على الأرضية مجددا

حملتها للديار. حينما فتحت عيناها بدأت بالصراخ كأني سأهاجمها

هدأتها قليلا رغم أن الأمر لم يجد نفعا ثم

غفت لشدة إرهاقها

بقيت معي لحين استعادت صحتها لم ترض التلفظ بحرف

صامتة طوال الوقت تصارع أفكارها دون أن تكلف نفسها عناء إظهار ذلك

لم أرد أن أقسو عليها لعلها تنفر مي لكني ليتني فعلت

في حين عودتي من البقالية وجدت ورقة على الطاولة

كانت تلك رسالة جيمري لي

وداعها الأخير جسدته على قطعة ورق

جدي

كان بودي لو تمكنت من العفو و الإقدام لكن الأمور تسير على نحو خاطئ

لم أتمكن بعد من مغادرة تلك الزنزانة و صورة والدي راسخة في ثنايا ذاكرتي

علق هو داخلي و علقت أنا في صورته للأبد

لا تهتم بشأني

الوداع

لم يتمم العجوز كلماته حتى أجهش بالبكاء

ليضمه ازرا محاولا مواساته

_ لا تقلق سأبذل قصارى جهدي حتى أعثر عليها أعدك بذلك

رفع الشيخ يداه ماسحا عبراته ثم نهض لحجرتها آتيا بصورة لها

حتى رائحتها لا تزال في الغرفة

أخرج من خزانتها ما جاء من أجله و توجه نحو ازرا

_تفضل أثق بك

غادر ازرا المبنى و هو يتساءل داخله

كيف للشيخ أن يصبر؟

توالت الأيام و انجلت الليالي

يمضي ازرا يومه في اقتفاء أثر جيمري أما في الليل يعود أدرجه مواصلا إتمام روايته

حتى عثر عليها أخيرا بفضل معارفه.

لم يرد أن يخبر الشيخ حتى يكمل ما تبقى من وعده

كانت جيمري فتاة في الثامنة عشر ذو قامة متوسطة و جسم نحيف أعين سوداء مثل لون شعرها المجعد

تعمل في مطعم صغير كنادلة و في المساء تعود لمنزلها الصغير المهتر حتى أنه كاد يقع

قرر ازرا ان يراسلها لعلها ترد عليه

تناول آلة الكتابة القديمة و بدأ بخط رسالته

من رجل قرر أن يراسلك من تلقاء نفسه

لجيمري

لكم أجهل كيف تبتدأ الرسائل و كيف تنتهي

أكتب لكي على سطور باهتة تضيفها الكلمات معنى

هنا بجواري يقطن شخص أقدم على انتظاركي للأبد

لم يعد بوسعه أن يفعل كل ليلة يقضيها بعيد عنك يخشى أن يقترب منه الموت ليأخذ روحه قبل أن تجتمعا

لم أدرك بعد ما المغزى من الوقوف مكتوفي الأيدي ننظر ببلاهة للأيام و هي تنقضي

و نحن نخسر أكثر و أكثر

بودي لو أنكي تجيبي عن كلماتي هذه

أنتظرك بلهفة لا تتأخري

سأترك لكي عنواني إن رغبتي في مراسلتي

انتبهي لنفسك

لم يمر الكثير من الوقت

ربما أسبوع لا أكثر حتى تلقى ازرا ظرف كانت بداخله تكمن الرسالة فتحها بشوق و فضول حتى تتسنى له قراءتها

للرجل الذي قرر أن يراسلني من تلقاء نفسه

لربما أيقنت منتظري الذي تقلب على نار الحنين و الاشتياق

ها أنا أعقد العزم و أقطع عدة أشواط حتى أتمكن من رسم هذه الجمل

لكني مازلت بحاجة من الوقت كي أدرك أن المآسي تجاوزتني و تضاءلت مرارتها

لست بتلك الجسارة حتى أواجه الماضي مجددا

الماضي الذي فررت منه كي أتناساه

في المرة القادمة أرسل لي صور جدي

انتبه له من فضلك

أنتظرك لا تتأخر

جيمري

كانت هذه الكلمات كفيلة حتى تسعد ازرا و تعيد الحياة للشيخ

هذه المرة لن يبخل عليه بهذا الخبر السار

توجه راكضا حاملا في يده تلك الرسالة

لا يزال لا يصدق أنه فعل ذلك

أخبر العجوز ما حصل و أراه الظرف الذي أرسلته حفيدته ليبتهج حقا

_ هذا لا يعقل هذه الحقيقة أليس كذلك؟

تسللت بعض قطرات من عيناه تتخذ من خده دربا تشقه حتى تقع

إنها دموع الفرح

لاحقا قرر أن يكتب ازرا رسالته برفقة الجد مسندا إليها بعض الصور تلبية لطلبها

جيمري

لم نذرف منذ زمن عبرات السعادة تلك

لم ننتشي و نصرخ من أعماقنا التي اعتادت أن تكسر

اليوم يقطن بجواري شخص متأمل يعد الساعات حتى يلاقيكي لا تستكبري عليه عناء ذلك

كدت انسى الأشياء التي نلوذ بالفرار منها تقبع داخلنا

لا يستطيع أي وحش بالخارج إثارة هلعنا

الفزع الحقيقي يختبا في أفئدتنا

لا باس بالمحاولة

لا تنتظري أن تصبح الأمور على ما يرام بل حاربي من أجل ذلك

أثق بكي

لا تخذليني

الى الشخص الذي

جعلني أبصر الحقيقة

بت أدرك أن الفروق لا تظهر من تلقاء نفسها

بالعكس نحن مطالبون بذلك

رغبنا أم أبينا

السجون تسكننا

والأقفاص والقيود

نحن من خلقناها

لذلك ها أنا أنهي عبوديتي وأكسر أبواب زنزاناتي الحديدة

أزيل الأصفاد التي لامست يدي وأثقلت حركتي

سأرى جدي

أعدك بذلك

جيمري

Prisons inhabit us

Cages and restrictions

We created it

Meriem NOUAR

اصطحب ازرا الشيخ كي يشتري هندام جديدا ليستقبل به حفيدته ويتوج به اليوم المنتظر

وفي المساء عادا أدراجهما متجهين نحو منزل ازرا كي ينتظرا جيمري

قاربت الساعة أن تصل للثامنة مساء

وها هما يجلسان على الأريكة يمسكان بأيدي بعضهما يراقبان الباب

بلهفة لا تصدق

أخيرا الباب يدق

_ لقد أتت

نهض ازرا مسرعا حتى يفتحه

_جيمري

_ملاك جدي الحارس

ضحكا في آن واحد

_تفضلي

دخلت جيمري و ابتسامة تعلو وجها لتضم جدها التي اشتاقت إليه حقا

ثم جلسا يتبدلان أطراف الحديث

حتى صرخت جيمري

_ لا أصدق

ازرا أليس كذلك

ضحك الجميع لحماسها

ليردف ازرا _ بلى

No matter how long winter takes

Spring will one day come

Meriem NOUAR

حتى ذلك الارتطام الذي كسر جوفنا لم يعد سوى ذكرى

وحدها الحياة لقنتنا ذلك

سنتخفف من ثقل آلامنا رويدا

لتصبح ارواحنا خفيفة ترقص ابتهاجا

سنتجاوز هذا

عم التصفيق المكان

كلمات ازرا خلقت الامل بداخل ملايين الناس

ها هو يصدر روايته التي حققت آلاف المبيعات

هنئه الجد لهذا النجاح الساحق برفقة حفيدته التي باتت تقيم معه

حتى أنه لم يعد يقوى على مفارقتها

كل ليلة بيضاء انتهت

كل حلم مزعج حال في الأفق

الندبات استحالت

وأصبح الجميع على ما يرام

.