بضع دقائق فقط من لحظة حصول الأحداث كانت كافية ليتم نقلها إلى جميع أرجاء المعمورة، حرب صغيرة مصغّرة اندلعت في باريس أسفرت عن مقتل حوالي 129 شخص وجرح العشرات كانت كافية لتقوم الدنيا لتنتفض وتدين وتستنكر، بضع دقائق فقط وسويعات جعلت العالم بأكمله يذرف الدموع كالثكالى على قتلى باريس.

لسنا هنا في موقف التأييد أو النفي للعملية، ولا في موقف التأصيل الشرعي مثلًا، إنما في موقف تسليط الضوء على ردود الأفعال على الحادث وكيف يكيل العالم بمكيالين.

ففي عالمٍ طالما نظر بنظرة المزهو إلى أحذية لابوتان وألبسة شانيل ومارتيل، يصبح الدمّ الفرنسي أغلى بكثير من نظيره الأفغانستاني والعراقي والفلسطيني والسوري، فسقوط الملايين من هؤلاء لا يستدعي تمامًا – وفق إنسانيتهم الرعناء – تغيير صور بروفايل فيسبوك إلى أعلام تلك الدول أو صور أولئك الضحايا. البارحة فقط قتل أكثر من 150 إنسان في سوريا، قصفًا وقتلًا واختناقًا وتفجيرًا وذبحًا، ولا تسمع حسًا ولا تلتقط صوتًا.

لكن لا شيء كان مثيرًا للاشمئزاز ممن ادعوا أنهم مسلمون وعرب، ومع ذلك رفعوا العلم الفرنسي الدنيء على بروفايلاتهم وأعلنوا تضامنهم ودعمهم لـ”الإنسانية”، تلك الإنسانية التي لم نسمع لها صوتًا عندما ارتكبت فرنسا المجازر تلو الأخرى في سوريا والعراق – في حقّ الضحايا المدنيين بالمناسبة وليس المقاتلين ممن تحسبهم – بل إن بعضهم كحاملة “جائزة نوبل للسلام” والمدعوة “توكل كرمان” ذهبت أبعد من ذلك لتصفهم بـ“الشهداء الذين أنعم الله عليهم”، الشهداء، الذين عاشوا وهم كفار، وماتوا وهم كفار، ودخلوا الجنّة – شهداء يشفعون لسبعين من أهلهم – وهم كفار أيضًا، يا سلام!

ومع كل حادثٍ وكل مجرى، يخرج لنا جماعة “الإسلام بريء من هؤلاء، الإسلام ضد الإرهاب، الإسلام دين الإنسانية”.. ونرى فيديو واثنين بل وعشرة ومليون، عن فلان الفلاني “المسلم” الذي يعلن أن الإسلام بريء من هذه الأحداث، فهو – وكونه المتحدث الرسمي باسم الإسلام طبعًا – يعرف ما يجب قوله في مثل هذه الأحداث، فقد أعاد تكرار نفس “التبرئة” – وكأن الإسلام بحاجة إلى من يبرئه ويلمع صورته – عشرات المرّات من قبل. لا زلتُ أتذكر تلك الفتاة – الغير محجبة – التي خرجت لتتحدث بفيديو شاهده الملايين عقب أحداث مجلة شارلي إيبدو التي سخرت من الرسول (ص) عن أنّ الإسلام بريء ممن نفذ تلك العملية، وأنّها تتحدث باسم جميع المسلمين لتقول أنّهم يحترمون الرأي والرأي الآخر، والاتجاه والاتجاه المعاكس، تمامًا كما يفعل فيصل القاسم في برنامجه بالضبط.

بقبلةٍ فرنسية، ردّت فرنسا على أحبائنا السابقين عبر مظاهراتٍ خرجت بأكثر من مكان ضد المسلمين، بل وتمّ إحراق القرآن الكريم فيها. بل وأعلنت فرنسا عن تكثيف الضربات فوق سوريا والعراق، والتي طبعًا تقتل كل أحد إلا المقاتلين هناك.

فرنسي - قذر - يحرق القرآن الكريم في مظاهرات بفرنسا عقب أحداث باريس

 من بين الذين سقطوا في أحداث باريس: كلب كان موجودًا في مكان الحادث وقُتل في أثنائه، “الإنسانية” الفرنسية المرهفة لم تكتفي بالنظر إلى الأمر، بل أطلقت هاشتاج #أنا_كلب على تويتر، هاشتاج يعكس فعلًا طريقة تفكير الكثير من الفرنسيين والمسلمين حتّى، أو كما يقولون باللهجة المصرية: بني آدم براس كلب.

هنا، يوجه الفرنسيون رسالة إلى جميع المتمسحين بهم من عرب ومسلمين وكل من حاول لباس “رداء الإنسانية” البالي، وهي أن الكلب الفرنسي أغلى عندهم من حياة أي مسلم أو عربي، فالكلب الفرنسي – الفاخر النوع – يظل يحمل الدماء الفرنسية في النهاية، وهو ما لا يحمله – للأسف – الملايين من المسلمين الذين قضوا نحبهم في السنوات الماضية، مما استدعى إنشاء هاشتاج خاص لتأبين الكلب الفقيد، على عكس الملايين ممن لا بواكي لهم في سوريا والعراق وفلسطين.

فرنسا لم تكتفي هنا، بل أعلنت أنها ستحارب وبقوة “الإسلام المتطرف” وفي روايةٍ أخرى “الإسلام المتشدد”، فالإسلام الصحيح وفق وجهة النظر الفرنسية هو الإسلام الكيوت الذي يخلع الحجاب ويقبل المشاركة مع الكنائس والأعياد الوطنية الفرنسية، الإسلام الذي يتابع الموضة والذي ينبذ التطرف والنقاب وعدم مصافحة النساء ودعم فقراء المسلمين في افريقيا، بل ويساهم في نهضة وازدهار فرنسا، الدولة التي حاربت الإسلام والمسلمين لأكثر من ألف عام، وما تزال.

غدًا سيتم توزيع خطبة موحدة على 2500 جامع بفرنسا للتنديد والاستنكار وإظهار “سماحة الإسلام”، سماحة لم يفهموا يومًا متى تكون وأين، صحيحٌ أنّ هذا الدين هو دين الرحمة والمحبة والسلام، ولكنه وفي نفس الوقت، دين القوة والعزة والكرامة الذي لا يقبل أن يحني جبهةً ولا يلين يدًا لمن يعاديه، بل ولم يعرف يومًا سوى الجهاد الحقّ في وجه أولئك الذين يريدون حربه.

الفرنسيون، “أحبتنا وإخوتنا” كما يطيب لتوكل كرمان أن تصفهم، قتلوا مليون ونصف المليون في الجزائر، واستعمروا ثقافيًا بلاد المغرب العربي وغزوا أهلها ومازالوا هناك يغزون إلى اليوم، وساعدوا الصرب ضد المسلمين في البوسنة، وأيدوا الميليشيات المسيحية المتطرفة في افريقيا ضد المسلمين، وكانوا أول من دعى إلى الحملة العسكرية ضد المقاتلين في مالي، بينما لم تسمع يومًا صوتهم في سوريا مثلًا. القضية ليست قضية حكومة معادية عملت مجازر في الماضي وذهبت، فرنسا أجرمت – وماتزال تجرم – في حقنا وفي حقّ جميع مسلمي العالم، حكومةً وشعبًا، ولم تعتذر يومًا ولم تدن أو تستنكر لحظةً ما فعلته في الماضي.

لا ذرة تعاطف ولا حزن على من قتل منهم حتى وإن كانوا قتلوا بلا سبب، فقطرة دم واحدة من دماء طفلٍ في سوريا والعراق أغلى عندنا من عطور باريس بأكملها. وليذهبوا وغيرهم ممن مات ويموت ليلاقوا ربهم، وليخبرونا لاحقًا إن نفعتهم لابوتان وشانيل.

مع كل ما سبق: ما يزال هناك بعض المحسوبين زورًا من أبناء جلدتنا ممن يتضامنون مع فرنسا، بل ووصل بهم الحال إلى رفع علمها عندهم، والانسلاخ من كل ما له علاقة بالإسلام حقًا فقط في سبيل “تلميع صورة الإسلام” وكأنّه سيارة أفانتي، و”إظهار سماحة ومحبة الإسلام” للعالم، وكأننا نهتم له أصلًا، العالم الذي يساهم كل يوم في قتلنا وتشريدنا، ويبقى صامتًا على الجرائم المرتكبة بحقنا وينتفض من أجل كلب.. يا له فعلًا من عالمٍ كلب!

بقلم : خالد هلال


المصدر