إنّ القضية الأهم التي تتمحور حولها صراعات المنطقة العربية على مدار قرنٍ من الزمن هي مسألة الحرّية، سواء أكانت “حرّية الوطن” من الاحتلال والهيمنة الخارجية أو “حرّية المواطن” من الاستبداد والفساد الدّاخلي.
لكن أساس المشكلة في الواقع العربي الراهن هو غياب الاتفاق على مفهوم “الوطن” وعلى تعريف “المواطنة”. ولعلّ ما حدث ويحدث في عدّة دول عربية من صراعاتٍ على “الوطن” ومن انقساماتٍ حادّة بين “المواطنين”، لأمثلة حيّة على مكامن الأزمات السائدة الآن في المجتمعات العربية.
ولم تستفد بعدُ المنطقة العربية من دروس مخاطر فصل “حرّية الوطن” عن “حرّية المواطن”، ومن انعدام الممارسة الصحيحة لمفهوم المواطنة. ولم تستفد المنطقة أيضاً من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي ما زال تجاهلُها قائماً، هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ طائفية أو إثنية، حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولهدم الكيانات والمجتمعات العربية.
ولو لم تستبِح حكومات عربية سلطات أوطانها وحقوق مواطنيها، هل كانت الأمَّة العربية لتصل إلى هذا الحدِّ من الضعف والعجز والانقسام والاستباحة من الخارج؟!. طبعاً لا يجوز التسامح مع الاستبداد والفساد والسكوت عنهما بحجة مواجهة الخطر الخارجي، ولا يصحّ تغليب الحلول الأمنية على الحلول السياسية في مواجهة الانتفاضات الشعبية، ففي ذلك دعمٌ لكلّ المبرّرات والحجج التي تسمح بالتدخّل الأجنبي المباشر أو غير المباشر.
لكن مواجهة الاستبداد الداخلي من خلال طلب الاستعانة بالتدخّل الخارجي أو من خلال العنف المسلّح المدعوم معظم الأحيان خارجياً، جلب ويجلب الويلات على البلدان التي حدث فيها ذلك، حيث تغلب حتماً أولويات مصالح القوى الخارجية على المصلحة الوطنية، ويكون هذا التدخّل أو العنف المسلّح نذير شرٍّ بصراعاتٍ وحروبٍ أهلية، وباستيلاءٍ أجنبيٍّ على الثروات الوطنية، وبنزعٍ للهويّة الثقافية والحضارية الخاصّة في هذه البلدان.
هناك، بلا شكّ، حاجةٌ قصوى للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وحتّى الثقافي، في عموم المنطقة العربية ودول العالم الإسلامي، غير أنه أجدى بالدول الغربية تحديداً أن تبحث عن مقدار مسؤولياتها في أسباب التخلّف والتدهور الحاصل في أوضاع المجتمعات العربية، وما قامت به معظم هذه الدول على مدار قرنٍ من استعمار مباشر وغير مباشر ومن سلب لثروات الشعوب، ومن تدخّل عسكري وسياسي، ومن حربين عالمتين مدمّرتين للعالم كلّه، ومن “حربٍ باردة”، كانت البلاد العربية هي ساحة صراع ساخنة لها، ومن دعمٍ مطلق ومفتوح للعدوان الإسرائيلي الغاشم على الشعب الفلسطيني كلّه وعلى عدّة دول عربية.
إنّ الديمقراطية هي وجهٌ من وجهيْ الحرّية، وهي صيغة حكم مطلوبة في التعامل بين أبناء البلد الواحد، لكنّها ليست بديلة عن وجه الحرّية الآخر، أي حرّية الوطن وأرضه. ولذلك فإنّ إنهاء أزمات المنطقة لن يكون فقط في تغيير حكومات وأنظمة، بل أيضاً في إنهاء كافّة أنواع الهيمنة والتدخل الإقليمي والدولي في بلدانها، وبإزالة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وإعادة الحقوق المغتصبة للشعب الفلسطيني.
قبل قرنٍ من الزمن، عاشت البلاد العربية حالةً مماثلة من التحدّيات ومن مواجهة المنعطفات الحاسمة، لكن قياداتها لم تُحسن آنذاك الخيارات، فدفعت شعوب المنطقة كلّها الثمن الباهظ. عسى ألا تتكرّر الآن مأساة الأمّة العربية بالسقوط في هاوية تقسيم جغرافي جديد، يتمّ فيها رسم الحدود بالدّم الأحمر للشعوب، لا فقط بالحبر الأسود للقوى الإقليمية والدولية المهيمنة!. وعسى أن لا تشهد المنطقة من جديد ما شهدته منذ مائة عام من رسم خرائط جديدة، ومن مراهنات على الخارج، ومن حصد صهيوني لهذه المتغيّرات، بينما العرب منشغولون بأنفسهم وبخلافاتهم!.
هي ثلاثة عناصر تصنع الآن الحاضر العربي: أوّلها وأهمّها، اهتراء الأوضاع السياسية الداخلية بوجهيها الحاكم والمعارض. وثانيها، التدخّل الأجنبي في شؤون الأوطان العربية. وثالثها، هو غياب المشروع الفكري النهضوي الجاذب لشعوب الأمَّة العربية ولجيلها الجديد الباحث عن مستقبلٍ أفضل.
لذلك كان مهمّاً استيعابُ دروس تجارب شعوب العالم كلّه، بأنّ الفهم الصحيح لمعنى “الحرّية” هو في التلازم المطلوب دائماً بين “حرّية المواطن” و”حرّية الوطن”، وبأنّ إسقاط أيٍّ منهما يُسقط حتماً الآخر.
إنّ مسؤولية تصحيح الأوضاع القائمة الآن في المنطقة العربية، هي مسؤوليةٌ شاملة معنيٌّ بها الحاكم والمحكوم معاً في كلّ البلاد العربية. ومن المهمّ طبعاً تصحيح البنى الدستورية والسياسية ليجد كلُّ مواطن حقّه في الانتماء الوطني المشترك، ولكي يعلو سقفه إلى ما هو أرحب وأوسع من سقف الانتماءات الفئوية الضيّقة. وهي أيضاً مسؤولية قوى المجتمع المدني والمؤسّسات الفكرية والسياسية والمنتديات الثقافية وعلماء الدين ووسائل الإعلام العربية المتنوعة، في التعامل الوطني السليم مع الأحداث والتطوّرات، وفي طرح الفكر الديني والسياسي الجامع بين الناس، لا ذاك الداعي إلى الفتنة بينهم.
هناك الآن حاجةٌ قصوى لوقفةٍ مع النفس العربيّة قبل فوات الأوان، وهناك حاجةٌ إلى فكر عربي جامع يتجاوز الإقليميّة والطائفيّة والمذهبيّة والقبلية، ويقوم على الديمقراطيّة ونبذ العنف واعتماد مرجعيّة الناس ومصالحهم في إقرار الدساتير والقوانين… وهناك حاجةٌ ملحّة للفرز بين “المعارضين والثوار” العرب لمعرفة من يعمل من أجل الحفاظ على النّسيج الوطني الواحد، ومن يعمل من أجل كانتونات فيدراليّة تحقّق مصالح فئوية وأجنبية… وهناك ضرورةٌ عربيّة وإسلاميّة للتمييز بين من “يُجاهد” فعلاً، في المكان الصحيح، وبالأسلوب السليم، ضدّ الاحتلال، وبين من يخدم سياسياً المحتلّ وأيضاً مشاريع الحروب الأهليّة العربيّة… وهناك حاجةٌ لبناء تكامل عربي بين أوطان الأمّة الواحدة، تكامل يقوم على احترام الخصوصيات المتنوعة، وعلى أسس سليمة في الحكم والمواطنة.
التاريخ يعلّمنا أنّ المنطقة العربية هي نهرٌ جارف لا بحيرة راكدة. وهذا ليس بخيار لأبناء هذه الأمَّة، بل هو قدَرُها المحكوم بما هي عليه من موقع استراتيجي مهمّ، وبما فيها من ثرواتٍ طبيعية ومصادر للطاقة، وبما فيها من أماكن مقدّسة لكلِّ الرسالات السماوية. ثمّ إنّ الصراعات بين القوى الإقليمية والدولية وتنافسها على المنطقة العربية، يزيد من هدير هذا النهر الجارف في المنطقة. والسؤال هو ليس حول إمكانية حدوث التغيير فيها أو عدمه، بل عن نوعيّة هذا التغيير ومواصفاته واتجاهاته، وعن أطرافه المستفيدة أو المتضرّرة من نتائجه، سواء محلّياً أو خارجياً. فالصراعات والتحدّيات وحركة التغيير، هي قدَر الأرض العربية على مدار التاريخ، لكن ما يتوقّف على مشيئة شعوبها وإرادتهم هو كيفيّة التعامل مع هذه التحدّيات، وهو أيضاً نوعية التغيير الذي يحدث على كياناتها وفي مجتمعاتها.
صعوبة الظروف وضعف الإمكانات وعدم الثقة بقيادات وسوء المناخ السياسي والإعلامي المسيطر، تلك عناصر لا يجب أن تدفع من يرفضون واقع العرب اليوم، لليأس والإحباط، بل إلى مزيدٍ من المسؤولية والجهد والعمل. فالبديل عن ذلك هو ترك الساحة تماماً لصالح من يعبثون في وحدة بلدان هذه الأمّة ويشعلون نار الفتنة في رحابها.
“حرّية الأوطان” و”حرّية المواطنين”، كلاهما يحتاج إلى “الإنسان العربي الحرّ”، الإنسان الحرّ في تفكيره وعمله وإرادته، الإنسان الحرّ من أي ارتباطٍ خارجي، فالحرية لا يُحقّقها ولا يحصل عليها إلّا الأحرار.