وهنا سأروي حكاية رواها الكاتب الأميركي جاك كانفيلد Jack Canfield في كتابه "شوربة دجاج للروح"، وهي حكاية لا يمكن للمرء أن يقرأ مثيلا لها ربما الاّ في كتب القدّيسين وأهل الكرامات، حكايات لا تقيم للعقل وزناً، ولا تقيم للمنطق وزناً، ومن حسن حظّ الدنيا انها ليست من عشّاق المنطق على الدوام، فقليل من السوريالية يفرح قلب الانسان. ولا تخلو الدنيا من أحداث ووقائع هي أقرب الى السوريالية! ولقد رواها جاك كانفيلد على أساس أنها قصة واقعية، وهناك أشياء واقعية كثيرة لا تصدّق، ليس لأنها غير صادقة، ولكن لأننا نريد أن نراها بعين المنطق، والمنطق في أحيان كثيرة يصاب بعمى الألوان وقصر النظر!
يروي جاك كانفيلد قصّة فتاة في الثامنة والعشرين من العمر تدعى ليندا بريتيش، وهي كانت معلمة مدرسة، وكانت تمارس هوايتين الى جانب مهنتها، وهوايتاها ليستا بعيدتين كليا عن مهنتها في حال اعتبرنا التعليم نوعاً من أنواع الفنّ.
انتابها وجع رأس رهيب، واكتشف الأطباء ان الصداع سببه سرطان في الدماغ. فقال لها الاطباء ان نسبة نجاح العملية ضئيلة جدا لا تتعدى الاثنين بالمائة. تريثت الفتاة، ولم توافق على إجراء العملية إلاّ بعد ستّة أشهر.
ثمة اشياء مؤلمة في الحياة تولّد لدى الانسان رغبة جامحة في ممارسة الإيجاز الحياتيّ. فكرة الموت مخيفة ولكنّها تحرّر المرء في الأحيان من الخوف. حين يصير الموت يقينا ودانيا يتحوّل المرء إلى محارب شرس، محارب يتحرّر من الجبن. ودائماً أتذكر قصّة الراحل سعد الله ونّوس مع سرطانه. صار بينه وبين الموت سباق من نوع فريد، راح يكتب قبل ان يسرق منه الموت كلماته. لم يعد يخاف من كلماته. نعرف ان المرء في احيان كثيرة خوفا على نفسه من الاعتقال او الاضطهاد او القتل يراوغ في كلامه، أو يغلفه بغلالات مجازية تحميه من الإدانة. فيقيم رقيبا ذاتيا صارما على كلماته وعلى سلوكه. ويبدو أن الرقيب الذاتي هو أوّل ضحايا مرض السرطان. ففي فترة مرضه كتب ونّوس أجمل نصوصه المسرحيّة واشجعها وأجرأها.
ليندا بريتيش حين علمت ان السرطان لها بالمرصاد، ارادت ان تفرغ كلّ ما في جعبتها من رغبات أدبية وفنية. كانت تهوى الرسم فراحت ترسم وترسم بنهم جامح، وكانت تحبّ كتابة الشعر فراح الشعر ينساب على أوراقها البيضاء. وراحت تنشر قصائدها باستثناء قصيدة واحدة احتفظت بها لنفسها، كما كانت تشارك في معارض الرسم وتبيع كلّ لوحاتها، ولكنها احتفظت بلوحة واحدة . كانت القصيدة التي احتفظت بها أشبه بتعليق على اللوحة التي لم تغادر غرفتها.
بعد أن صفّت حسابها مع الدنيا تصفية فنية وأدبية قرّرت إجراء العملية، فكتبت وصيتها وحدّدت وهي بكامل قواها العقلية انها تتبرّع بكامل جثمانها الغضّ لذوي الحاجات. رحلت وتركت جثمانها أمانة في أجساد الآخرين!
ذهبت عيناها إلى بنك العيون في بيتسدا في ماريلاند، ومن هناك سافرت عيناها الى كارولين الجنوبية ليحطّ بهما الترحال في محجري شابّ في الثامنة والعشرين من العمر. بعد ان استعاد ذلك الشاب النور كتب رسالة شكر الى ذلك البنك الذي غيّر مصير نظره، وذيّل الشاب رسالته برغبته في التعرف الى أهل واهب عينيه النور. أعطى البنك اسم الواهب وعنوانه فتوجه الشاب إلى أهل الواهب، دون سابق خبر او إنذار. قرع الباب، وعرف عن نفسه ففتحت له والدة ليندا الباب، واستقبلته بالترحاب وعانقته بحرارة، ودعته الى الإقامة عندها فترة الويك آند كما لو انها كانت تريد أن تشبع عينيها من رؤية عيني ابنتها الراحلة.
أحبّ الشاب أن يتعرف على حياة من تبرّعت له بعينيها، فأدخلته الوالدة إلى غرفة ابنتها ليندا، لفت نظره أمر غريب في مكتبتها، وهو ان شيئا ما مشتركا بينه وبينها كان موجودا، فهي قرأت افلاطون وهو قرأ افلاطون، وهي قرأت هيجل وهو قرأ هيجل، ولكن قرأهما بواسطة لغة برايل الخاصّة بالمكفوفين.
في اليوم التالي قالت له والدة ليندا: وجهك مألوف، ولديّ إحساس بأنّي رأيتك من قبل. وفجأة تذكرت شيئاً ما، فذهبت إلى غرفة ابنتها وفتحت أحد الادراج وسحبت منه اللوحة التي كانت ابنتها قد احتفظت بها. كانت اللوحة هي صورة الرجل الذي كانت عيناها من نصيب محجريه. ومن بعد قرأت على مسمعي الشابّ المقطوعة الشعرية التي كتبتها ابنتها الراحلة لينا بريتيش وهي على فراش نزعها الأخير، والمقطوعة من ثلاثة أسطر هي:
"قلبان يعبران الليل
جمعهما حبّ
لم يرياه".
_____________
المصدر : مدوّنة بلال عبد الهادي
http://bit.ly/2lDLfGs