هذه السلسلة ستتناول المدارس الفلسفية المختلفة باستفاضة قدر الإمكان، قد نتناول مدارس فلسفية كاملة في مقال أو نقتصر على أشخاص من هذه المدارس، إيمانًا منا أن الفلسفة نشأت مع صعود الفردية في المجتمعات، وكان مهدها الأول أكبر دليل على ذلك، ولذا قد نتناول فيلسوف واحد في المقال، وسنتناولهم بالترتيب الذي وضعه يوسف كرم في تاريخ الفلسفة اليونانية، وسنتجنب الديانات القديمة في حديثنا هذا حتى يكون أبسط إلا لو احتجنا الإشارة لبعض المعتقدات.

سنتحدث عن الفلسفة اليونانية لبضعة مقالات نلاحظ فيها تدرج الغلسفة من التفسير المرجع للظواهر كلها للمادة فقط ثم يشوبه شيئ من التجريد ثم يميل للتجريد والنظر العقلي تمامًا وهو ما استمرت عليه الفلسفة في عصرنا مع بعض الإنتكاسات.

ولفهم تلك الفلسفات قد نحتاج لفهم بعض المعتقدات والأحداث والتي سنشير إليها إذا رأينا أنها تفيد في فهم بعض الفلسفات، فأرض اليونان شهدت كثيرًا من الصراعات، وأهلها يؤمنون بالقدر كما ذكر في أشعار هوميروس، وطبيعة معتقداتهم الدينية مختلفة عن باقي الديانات، فلديهم درجة عالية من تشخيص وأنسنة الآلهة التي تخطئ وتصيب، تجوع وتشبع، تغتصب وتتزوج، يحكمهم نظام ملكي على رأسه زيوس، وإيمانهم بحياة بعد الموت للنفس الخالدة التي تظهر كهواء لطيف في أشعار هوميروس، وقد نجد في ديوان منسوب لهزيود "أصل الآلهة" بوادر تطبيق لمبدأ السببية حيث يرى أن الأصغر يخرج من الأكبر، فالجبال خرجت من الأرض ومنها الآلهة، وقد تفيدنا هذه المعلومة في درس تطور العقل اليوناني.

ويقسم يوسف كرم الفلسفة اليونانية لثلاثة أطوار : النشوء، النضوج، الذبول

والنشوء ينقسم بدوره إلى قسمين: "ما قبل سقراط" "والسفسطائيين وسقراط"، ولا يغيب عليك أن حديثنا اليوم عن مرحلة ما قبل سقراط، حيث شاع ثلاث اتجاهات فلسفية وهي "الوجهة الطبيعية، الوجهة الرياضية، الوجهة، الميتافيزيقية" وتميزت الأولى في أغلب الفلسفات التي سنعرضها ب"التغيير" كسمة مميزة لها، فاول ما يلاحظه الفيلسوف هو تغير الطبيعة المستمر، ولميل الإنسان للإستقرار في عالم يحكمه التغير يبحث عن أصل لهذا كله لا يتغير، وهو الهدف الأساسية من الوجهة الطبيعية، والوجهة الرياضية تُعنى بالنظام في الحياة وتربطه بالاعداد بحكم أنها أُخترعت أصلًا للتنظيم، والوجهة الميتافيزيقية كما نعلم ميتافيزيقية ببساطة فأنكرت كل ذلك ورأت الوجود ثابتًا.

ونشأت الفلسفة كانت في المدن الأيونية لإختلاط الأيونيين -أحد بطون اليونان- بالشعوب الشرقية وغيرها أيم إختلاط، وأول من سنتحدث عنه هو: طاليس، وكل ما سنتحدث عنه مستنتج ومن كتابات متأخرين.

طاليس

نشأ في ملطية وعاش حسب التقديرات بين ٦٢٤-٥٤٦ ق.م، أحد الحكماء السبعة، قال أن الماء هو المادة الأولى والجوهر الأوحد الذي تتكون منه الأشياء, واسمه يعني الماء فكلمة طال تعني الماء و"يس" من الإعراب اليوناني، وأما القول أن الماء أصل كل شيئ فيبدو أنه من البديهيات عند البشر، فقال المصريون بذلك في الأساطير عن آتون الجالس على الماء والبابليون واليهود حين قالوا " في البدء خلق الله السموات والأرض... وروح الله ترفرف على الماء" وحتى الإسلام فيه آية بنفس المعنى تقريبًا "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) هود/7 .

والفلسفة في قوله الذي يميزه عن الباقي أنه استدل على قوله، يقول أرسطو في كتابه "ميتافيزيقيا" أو ما وراء الطبيعة أن الفئة التي ينتمي لها طاليس ترى مبدأ مادي أزلي منه الأشياء وإليه تعود وهو الماء وهو السبب الأول في فلسفة طاليس ، ويصف طاليس بمؤسس تلك المدرسة، ويرجع أرسطو استنتاج طاليس لعدة أسباب(2) -راجع ترجمة يوسف كرم في كتاب تاريخ الفلسفة اليونانية- وهي:

1- طعام كل كائن رطب

2- الحرارة نفسها تتولد من الرطوبة وتعتمد عليها لتبقى

3- بذور كل الكائنات لها طبيعة رطبة -المني مثالًا- وبالتالي الماء السبب الأول لكل الأشياء الرطبة

وبالتالي هذا رأي مؤسس المدرسة الطبيعانية، التي ترجع العالم كاه لمسبب أول هو الماء وكيف استدل عليه في نظر أرسطو، ويتحدث أرسطو في الفقرة اللاحقة عن كيف أن التغيير هذا، وهذه الحالة من الوجود والعدم تحتاج لمسبب آخر لهذه الحركة، لأن طبيعة المادة لا تشترط أن تتغير باستمرار، فالخشب لا يتغير هكذا وحده كل مدة، ولكن هنالك مسبب آخر غير طبيعته.

في كتاب النفس يتكلم أرسطو عن الروح ويقول أن طاليس افترض الروح كمسبب للتغير والحركة اعتمادًا على أن المغناطيس يحرك الأشياء لاحتوائه روحًا(٣)، ففرضية ١-أن كل شيئ يتكون من الماء

٢-وافتراض أن الحركة منبعها الروح "اعتمادًا على المغناطيس"

٣- كل شيئ يتحرك ويتحول ويتغير

٤- إذن كل شيئ مليئ بالأرواح أو الآلهة علىىحسب تعبير طاليس حسب ما أورده أرسطو، وهي العبارة الشهيرة لطاليس

وطاليس لم يحدد طبيعة تلك الروح، فهنالك من قالوا أن الروح من نفس طبيعة المادة الأولى التي حددوها في نفس مدرسته اعتمادًا على أن ما لا يتغير لا يُغير حالة غيره، أو ما لا يتحرك لا يُحرك، وكل شيئ من مادة أولى إذن فالروح كذلك، أضف لذلك أنهم عرفوا الروح على أنها مبدأ الحركة، أما من عرفوا الروح على انها مجموع مبادئ العالم.

ولكن يدرج أرسطو كلام طاليس عن أن كل شيئ مليئ بالآلهة في سياق حديثه عمن يفصلون الروح عن المبادئ الأولى المكونة للعالم، فيقول بعد إعتراضه على الأرفيون الذين يقولون أنه الروح تدخل الكائنات بالتنفس: لو فصلنا الروح عن العناصر، فلن يكون ضروريًا إعتبار العناصر كلها داخلة في تكوين الروح، فالروح يمكن أن يدخل في تكوينها ضد من كل زوج من الأضداد وهذا كاف لأن الأشياء تعرف بأضدادها، والخط المستقيم منه نعرف الخط المائل، يقول بعض الفلاسفة أن الروح تتخلل وتسود الكون كله، وهذا ما جعل طاليس يتوصل للقول أن كل شيئ مليئ بالآلهة، وهذا يؤدي لبعض الصعوبات: لمَ الروح إذا استقرت في الهواء أو النار لا تشكل حيوانًا بينما تفعل إذا استقرت في خليط من العناصر لا عنصر واحد...

وقد وضعه أرسطو هنا مع من يفصلون الروح عن العناصر، وهو مذهب المدرسة الطبيعانية فالروح ليست العناصر الأولية المكونة للكون عندهم وهي مبدأ الحركة في العالم، وهذه الفكرة البسيطة هي ما طورها تلاميذ طاليس وبدأوا بإرجاع الروح للعناصر وتكوينها منها، وهو ما سنذكره في مقال آخر.

بالتأكيد لا يعد هذا دليلًا على إيمان طاليس بالآلهة فقد كان ماديًا قحًا، وربما هو سوء تعبير من أرسطو نقله من معلمه أفلاطون تحدث عنه هذا المقال في العنوان السابع

أما عن فلسفته في الأسرة فقد كان يرى أن الفيلسوف لا يتزوج أو ينجب لأنه يعتبرها "ملهيات" عن الدنيا، ويخبرنا بذلك فلوطراخس في ترجمته لسولون أحد الحكماء السبعة وفي أحد مواقفه مع طاليس بعدما ادعى موت ابنه، ومن الترجمة الإنجليزية التالي:

This it is, O Solon, which keeps me from marriage and the getting of children; it overwhelms even thee, who art the most stout-hearted of men. But be not dismayed at this story, for it is not true(1)


(1)

(2)

(٣)

P5 and p12