السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

إشراقات من سورة الحجرات (1)

إشراقات من سورة الحجرات (2)

إشراقات من سورة الحجرات (3)


(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّـهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿٩﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿١٠﴾)

: يقول تعالى آمرا بالإصلاح بين المسلمين الباغين بعضهم على بعض (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) فسماهم مؤمنين مع الإقتتال. و بهذا استدل البخاري و غيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية و إن عظمت، لا كما يقول الخوارج و من تابعهم من المعتزلة و نحوهم. و هكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن، عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب يوما و معه على المنبر الحسن بن علي، فجعل ينظر إليه مرة و إلى الناس أخرى و يقول:( إن ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. فكان كما قال، صلوات الله و سلامه عليه، أصلح الله به بين أهل الشام و أهل العراق، بعد الحروب الطويلة و الواقعات المهولة.

و قوله ( فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّـهِ) أي: حتى ترجع إلى أمر الله و تسمع للحق و تطيعه، كما ثبت في الصحيح عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) قلت: يا رسول الله، هذا نصرته مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه.

و قال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا معتمر، قال: سمعت أبي يحدث: أن أنسا قال: قيل للنبي صلى الله عليه و سلم، لو أتيت عبدالله بن أبي؟ فانطلق إليه النبي - صلى الله عليه و سلم - و ركب حمارًا، و انطلق المسلمون يمشون، و هي أرض سبخة، فلما انطلق إليه النبي صلى الله عليه و سلم قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك. فقال رجل من الأنصار: و الله لحمار رسول الله أطيب ريحًا منك. قال: فغضب لعبدالله رجال من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد و الأيدي و النعال. فبلغنا أنه نزلت فيهم (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) رواه البخاري في (الصلح)، عن مسدد، و مسلم في (المغازي) عن محمد بن عبدالأعلى، كلاهما عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، به نحوه.

و قوله (فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿٩﴾) أي: اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم لبعض، و هو العدل.

(إن الله يحب المقسطين) عن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم و أهاليهم و ما ولو. رواه مسلم و النسائي، من حديث سفيان بن عيينة، به.

و قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، أي: الجميع أخوه في الدين، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) و في الصحيح : (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) و في الصحيح أيضًا: ( إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين، و لك بمثله. و الأحاديث في هذا كثيرة، و في الصحيح: (مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر). و في الصحيح أيضًا: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، و شبك بين أصابعه).

و قوله (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) يعني: الفئتين المقتتلتين. و (وَاتَّقُوا اللَّـهَ) أي: في جميع أموركم. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) و هذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿١١﴾) ينهى تعالى عن السخرية بالناس، و هو احتقارهم و الإستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال:( الكبر بطر الحق و عمص الناس و يروى (وغمط الناس) و المراد من ذلك: احتقارهم و استصغارهم، و هذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرًا عند الله و أحب إليه من الساخر منه المحتقر له؛ و لهذا قال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ)

فنص على نهي الرجال و عطف بنهي النساء. و قوله (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) أي: لا تلمزوا الناس. و الهماز اللماز من الرجال مذموم ملعون، كما قال تعالى:( ويل لكل همزة لمزة) الهمزة: 1. فالهمز بالفعل و اللمز بالقول، كما قال:(هماز مشاء بنميم) القلم:11. أي: يحتقر الناس و يهمزهم طاعنا عليهم، و يمشي بينهم بالنميمة و هي: اللمز بالمقال؛ و لهذا قال هاهنا ( ولا تلمزوا أنفسكم) كما قال:( ولا تقتلوا أنفسكم) النساء:29. أي: لا يقتل بعضكم بعضًا. قال ابن عباس، و مجاهد، و سعيد بن جبير، و قتادة، و مقاتل بن حيان ( ولا تلمزوا أنفسكم) أي: لا يطعن بعضكم على بعض. و قوله:(وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) أي: لا تتداعوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخص سماعها.

قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدقنا داوود بن أبي هند، عن الشعبي قال: حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة (ولا تنابزوا بالألقاب) قال: قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و ليس فينا رجل إلا و له اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعي أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله، إنه يغضب من هذا. فنزلت: (ولا تنابزوا بالألقاب) رواه أبو داوود عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن داود، به.

و قوله: ( بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) أي: بئس الصفة و الإسم الفسوق وهو: التنابز بالألقاب، كما كان أهل الجاهلية يتناعتون، بعدما دخلتهم في الإسلام و عقلتموه، (وَمَن لَّمْ يَتُبْ) أي: من هذا، (فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).


وزارة الأوقاف و الشئون الإسلامية - إدارة شئون القرآن الكريم - إشراقات من سورة الحجرات - جمع و ترتيب: محمد محمود يوسف، أمام و خطيب بوزارة الأوقاف و الشئون الإسلامية - الكويت.