يقول الله عز وجل في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾(البقرة:208)

هذه دعوة صريحة واضحة من الله عز وجل، موجهة إلى عباده المؤمنين أن يقيموا علاقاتهم بعضهم مع بعض على أساس من البر والسلم. وجاء التعبير عن ذلك بكلمة ﴿ادْخُلُوا﴾ الدالة على الأمر بالتوجه إلى هذا المبدأ الإنساني الشامل، بطواعية ورغبة ذاتية وقناعة داخلية.

ولكن لماذا جاء الأمر موجَّها إلى المؤمنين دون غيرهم؟ لماذا لم يقل مثلا: يا أيها الناس ادخلوا في السلم كافة؟

والجواب: أن الإنسان -بمقتضى ما رُكِّب فيه من الرعونات والأنانية وحب الأثَرة والخضوع للأهواء- ميّال إلى التنافس مع الآخرين وإلى الأثرة وحب الانتصار للذات. وهي في مجموعها طبائع تبعث على التصادم، وتوتّر العلاقات، والخصام وسفك الدماء، بدلا من التآلف والمسالمة والسير في طريق التعاون والإيثار. وهو ما قد تنبأت به الملائكة عندما قالوا لله عز وجل، فيما قص علينا البيان الإلهي من كلامهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾(البقرة:30)

فما الذي يذيب في كيان الإنسان هذه الرعونات، وما الذي يحيل مشاعر الأنانية في كيانه إلى غيرية، ويحيل الأثرة إلى إيثار، والخصام إلى ألفة، والتصادم إلى مسالمة وتعاون؟

إن السلام بين الشعوب بل بين أفراد الأسرة الإنسانية إنما يعني الألفة التي تشيع فيما بينهم، فيتواصلون بدافع من تبادل الخدمات والقدرات المتنوعة فيما بينهم، دون إجحاف أو بغي من فئة منهم على أخرى. وقد علمنا أن جذوة الإيمان بالله إذ تهيمن على العقل إدراكا وعلى الوجدان تعظيما ومهابة وحبا، هي التي تبعث على رسم هذه العلاقة وتمد بين الأفئدة جسور الأخوة والسلام.

إن الذي يقضي على ذلك كله في كيان الإنسان، يقظةُ الفطرة الإسلامية بين جوانحه، ولن تستيقظ هذه الفطرة بين جوانحه ولن تعمل عملها في القضاء على تلك الطباع إلا بنور من الهداية الإسلامية. فمن لم يكن قد استضاء كيانه العقلي والوجداني بعدُ بقبس وهاج من هذا النور، هيهات أن ينقاد لمن يدعوه إلى الدخول في ساحة السلم مع الآخرين، متخليا عن رعوناته وعصبيته وأهوائه.

فمن أجل ذلك توجه الخطاب الرباني الآمر بالدخول مع الآخرين في ساحة السلم هذه، إلى المؤمنين بالله دون غيرهم. ومن المعلوم أن الإيمان بالله أخص من الإسلام. فكل من آمن بالله تعالى لابدّ أن يكون مسلما له، ولكن ليس كل من كان مسلما لله في ظاهره مؤمناً بالله -بالضرورة- في باطنه، إذ قد يكون منافقا.

غير أن فينا من قد يسأل: فما هو مصدر تأثير الاستسلام الداخلي لسلطان الله ووحدانيته في النفس، على مدّ رواق السلم الخارجي بين الناس بعضهم مع بعض؟

والجواب: أن من عرف الله إلهاً واحدا متصفا بكل صفات الكمال منـها عن كل صفات النقصان، عرف نفسه عبدا مملوكا له عز وجل.

فإذا استقرت هذه المعرفة في وعي الإنسان ووجدانه، تهذب كيانه وغاضت رعوناته وغابت أنانيته في ضرام خشيته وتعظيمه لمن هو عبده ومملوكه.. وتلك هي التزكية التي يركز عليها كثيرا البيان الإلهي في القرآن، بأسلوب الأمر آناً، وبأسلوب المدح لمن اشتغلوا بتزكية نفوسهم آناً آخر.

إن صاحب هذه المعرفة المستقرة في عقله والمهيمنة على وجدانه، يصبح رباني التصرف والسلوك، فلا يقوم ولا يقعد ولا يعطي ولا يأخذ ولا ينطق ولا يسمع إلا بالله عز وجل، لأنه على يقين تام بأنه كتلة ضعف وعجز وذل وفقر، لا يتأتى منه شيء، ولكنه بالمدد الإلهي يغدو قادرا على كل شيء، وبالمدد الإلهي يتقلب في أعمال السوق وتجاراتها وصناعاتها، وبالمدد الإلهي يعقل وينطق ويبصر ويسمع. ولعل هذا من بعض معنى كلام الله في الحديث القدسي: ".. وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن استعاذ بي لأعيذنه" (رواه البخاري).

فلنتأمل في حال هذا الإنسان الرباني ونظره إلى عباد الله وطريقة معاملته لهم، وهو يقرأ قول الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾(الإسراء:70)، وهو يقرأ أو يسمع حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله" (رواه أبو يعلى والبزّار). لا ريب أنه ينظر إلى المؤمنين المستقيمين من عباد الله نظرة توقير وحب، ويعطيهم من نفسه وإمكاناتها كل عون، وينظر إلى الفاسقين والتائهين والضالين -على اختلاف فئاتهم- نظرة إشفاق ورحمة، ويذهب في نصحهم بدافع من الرحمة بهم والغيرة عليهم كل مذهب. فإن هم استجابوا فرح باستجابتهم، وإن هم أعرضوا عنه وركبوا رؤوسهم دعا الله بالهداية لهم.

ولقد كان أول وفد وَفَدَ إلى رسول الله من الحبشة ليعلن أفرادُه تجديدَ إيمانهم بالله ووحدانيته ورسله، من هؤلاء الربانيين الذين ينظرون إلى عباد الله -أيا كانوا- هذه النظرةَ.. فقد أقبل إليهم المشركون بعد خروجهم من عند رسول الله، ساخرين شاتمين، وقال لهم أبو جهل: ما رأينا ركبا أحمق منكم، أرسلكم قومكم تعلمون خبر هذا الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم! فقالوا: "سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيراً" (رواه ابن إسحاق). ولو أن رجال هذا الوفد تلقَّوا سخرية المشركين وشتائمهم، بطبائعهم ومشاعرهم البشرية بعيداً عن الاصطباغ بحقيقة العبودية لله، لبادلوهم الشتائم بمثلها بدلاً من السلام الذي قابلوه به. ولتحكمت بهم حظوظ النفس وعوامل الانتصار للذات.

الخلق عيال الله

ولقد ذكروا في سيرة العالم الرباني الجليل سيدي الشيخ معروف الكرخي، أنه كان يسير ذات يوم مع ثلة من تلاميذه على شاطئ دجلة، فرأى أحدهم في داخل نهر دجلة سفينة عليها ثلة من الشباب يقصفون ويلهون، فقال للشيخ: يا سيدي ألا ترى إلى هؤلاء الفاسقين الضالين، ادع الله عليهم. فرفع الشيخ يده قائلا: اللهم كما أدخلت السرور على أفئدتهم في الدنيا فأسألك أن تدخل السرور على أفئدتهم في الآخرة أيضا. إنه لم يكن ينظر إلى أولئك الذين كانوا يمارسون المجون واللهو، بعين بشريته التي من شأنها أن تخلط الانتصار لدين الله بالانتصار للنفس ورعوناتها وأنانيتها، ولكنه كان ينظر إليهم بمنظار عبوديته لله خالصة عن الشوائب.. وحقيقة العبودية لله رَحِمٌ بينه وبين الناس جميعا على اختلاف توجهاتهم، فكان الشأن في هذه الرحم أن تبعثه على الرحمة بهم والشفقة عليهم، ومن ثم توجه إلى الله لهم بهذا الدعاء. وهو

-كما نلاحظ- دعاء لهم بالهداية والمغفرة، لأن الله لن يدخل على أفئدتهم السرور في الآخرة إلا لأنه قد هداهم وعفا عنهم في الدنيا.

أرأيتم إلى هذا السّلم الذي انبثق من إيمان المؤمنين الصادقين بربوبية الله الفرد الصمد لهم، ومن ثم بعبوديتهم لله عز وجل، فنظروا إلى الأسرة الإنسانية كلها من خلال قول رسول الله في الحديث الذي سبق ذكره: "الخلق كلهم عيال الله، فأحبُّهم إلى الله أنفعُهم لعياله"، فطهرت قلوبهم بذلك من الشحناء والبغضاء والعصبية للذات، وغدت بذلك وعاء لمحبة الله عز وجل، ثم تفرعت عن جذع هذه المحبة القدسية فروع لا حصر لها من محبة عباد الله والشفقة عليهم والرأفة بهم... أقول أرأيتم إلى هذا السِّلم الذي انبثق سلطانه من إيمان هؤلاء المؤمنين بالله عز وجل، أفكان من الممكن انبثاقه من نفوس أناس لم تهيمن عليها حقائق الإيمان بالله، ومن ثم لم تصطبغ بعد بصبغة العبودية لله؟ إن الخطاب الرباني مهما توجه إلى هؤلاء الناس آمرا لهم بالدخول في السلم، فإن الاستجابة لن تكون للأمر الصادر من لدنه، وإنما تكون الاستجابة لرغائب أهوائهم وعصبياتهم، ولوحي استكبارهم على الآخرين. وهي في مجموعها رعونات لا يذيبها إلا مشاعر العبودية لله عز وجل.

لماذا شرع الجهاد القتالي

لعل في الناس من يقول: فإذا كان الإيمان بالله هو المدخل الذي لا بديل عنه إلى السلم، وإذا كان الإسلام إنما جاء لمدّ رواق السلم في العالم، فلماذا شرع الجهاد القتالي إذن؟ ولماذا توجهت جيوش المسلمين بأسلحتها إلى كل جهات العالم؟

والجواب: لماذا كان القصاص هو الشرعة التي لا بدّ منها لحماية الحياة؟ لماذا كان العقاب هو السبيل الذي لا بدّ منه للقضاء على الجريمة؟ رواق السلم العالمي ممتد بأمر من الله عز وجل، وضمانات بقائه ورسوخه مشروعة، صدر الأمر الإلهي برعايتها والسهر على تنفيذها. وإن من الضمانات لبقائه الضرب على يد كل من أراد بهذا الرواق سوءا وتوجه إلى العبث به.

إن الجهاد القتالي الذي شرعه الله عز وجل، لم يُقصد به يوما ما التضييق من الحريات التي يتمتع بها الناس، ولم يقصد به جرّهم عنوة إلى معتقد لا يريدونه، أو نظام لا يستسيغونه، وإنما شرعه الله تحصينا لساحة السلم أن لا تمتد يد العبث بها، وأن لا ينتقص من أطرافها، أليس في الدنيا طغاة يطمعون بحقوق الآخرين ويستعملون إمكاناتهم وقوتهم في اقتناصها، كم من أوطان لمستضعفين احتلت، وكم من أموال لهم اغتصبت، وكم من أعراض انتهكت، وكم من حريات صودرت. فما هي العين الساهرة التي لابد منها لحراسة الأوطان والأموال والأعراض والحريات؟ إنها الشريعة الإسلامية الغراء التي ابتُعِثَ بها خاتم الرسل والأنبياء. لقد فتحت بلاد الشام ومصر وغيرها، ولكن هل كان معنى فتح كل منهما إلا طرد المستعمر المحتل الذي جاء من وراء البحار يحتل أرض مصر والشام ويبسط سلطان قهره وعتوه على أصحاب تلك الأوطان؟ وهل عرفت الدنيا أناسا أسعد من أهل مصر والشام بذلك الفتح الإسلامي الذي حرر رقابهم وأرضهم من طغيان الاحتلال الروماني، وأعاد إليهم حرياتهم الضائعة؟

ولكن أفكان من الممكن استعادة الحقوق إلى أربابها وطرد العدو المحتل، إلا عن طريق القهر الجهادي؟ إنها شرعة العقاب والقصاص، هي الضمانة التي لا بدّ منها لحماية الحقوق وحراسة الحريات. وهذا معنى من معاني قول الله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾(البقرة:179).

لقد أنزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهو أمير المؤمنين- العقاب الصارم، على ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه، لأنه حاول أن يستهين بحرية شاب من أقباط مصر، وأصاب برشاش ذلك العقاب والده أيضا قائلا: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟" أفكان عمله هذا حماية للسلم الذي جاء الإسلام لرعايته وتحصينه، أم كان انتهاكا للسلم وانتقاصاً من أطرافه؟

إن البيان الإلهي ينهى في القرآن عن الإفساد في الأرض، ويحذر من الإفساد فيها، ويأمر بالضرب على يد المفسدين في الأرض، ويكرر هذا التحذير والبيان في كل مناسبة. من ذلك قوله تعالى خطاباً لقارون: ﴿وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(القصص:77). وقوله: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾(الروم:41). وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾(البقرة:204-205).

فما هو المراد بالفساد في الأرض؟ إن المراد به -باختصار، وبكلمة جامعة- العبث بمقومات السلم وضماناته في المجتمع. وصور ذلك كثيرة ومتنوعة، وكلها يندرج تحت معنى الظلم وانتهاك قدسية الحقوق.

أليس من مقتضى حراسة السلم والسهر على تحقيق عوامله ومقوماته، الضرب على أيدي العابثين به، والمستمرئين لحقوق الآخرين والممعنين في إهلاك الحرث والنسل كما قال الله؟

ثم أليس من أعجب ما يُذهل العقل أن تسمى حراسة السلم العالمي عن طريق حراسة العدالة والضرب على أيدي المتربصين بمقومات السلم، تطرفا وإرهابا؟ وأن يسمى إلهاب البلاد المطمئنة الآمنة بنيران الحروب الكيدية المصطنعة والعمل على الإيقاع بين الإخوة المتآلفين المتعاونين حماية للسلم ومقاومة للإرهاب؟!

وحصيلة القول

أن الإنسان لو لم يكن منذ أقدم العصور يحمل داخل كيانه أثقالا من الرعونات النفسية، المتمثلة في العصبية والأنانية والرغبة في اقتناص حقوق الآخرين ما وسعه ذلك، لما حمّله الله أمانة الإيمان بالله واليقين بعبوديته ومملوكيته لله، وأمانة الالتزام بالشرعة التي فرضها عليه، لتكون الأداة التي تمكنه من التحرر من تلك الآفات والرعونات النفسية، ومن ثم تيسر له سبيل السعي إلى مدّ رواق السلم العالمي محصناً بسور العدالة وحماية الحقوق.

إن الجهاد القتالي الذي شرعه الله عز وجل، لم يُقصد به يوما ما التضييق من الحريات التي يتمتع بها الناس، ولم يقصد به جرّهم عنوة إلى معتقد لا يريدونه، أو نظام لا يستسيغونه، وإنما شرعه الله تحصينا لساحة السلم أن لا تمتد يد العبث بها، وأن لا ينتقص من أطرافها.

وأن حب الطغيان واقتناص الحقوق والإفساد في الأرض لو لم يكن الطبع الملازم لكثير من الناس في كل عصر، لما شرع الله الجهاد القتالي، لعدم وجود الحاجة إليه، بل لما شرع الله القصاص في القتلى، ولما رسم العقوبات والحدود التي ينبغي أن يلاحق بها المجرمون. ولكنا قد علمنا أن الظلم من شيم كثير من النفوس البشرية، وأنه يتم على الغالب خلال تيار من الوحشية، نظلم الحيوانات المفترسة عندما نشبه وحشية هذه النفوس بها. فكان لابد من سطوة عادلة تحطم أنياب الظالمين ومخالبهم. ولم يكن من سبيل إلى هذه السطوة إلا الجهاد.

وأن الجهاد الذي شرعه الله لمنع الفساد في الأرض ولحماية رواق السلم أن لا يساء إليه وأن لا ينتقص من أطرافه لم يسخَّر يوماً ما للإجبار على اعتناق معتقد في مكان معتقد آخر. إن الإله الذي شرع الجهاد هو القائل في القرآن لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾(الغاشية:21-22)، وهو القائل له: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾(يونس:99). ولقد حذر إله الكون الذي شرع هذا الجهاد من أن يستعمل للعدوان على الآخرين أو للاعتداء على أيٍ من حقوقهم. فقال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾(البقرة:190).

الفرق بين السلام والاستسلام

وأخيرا فإن من الأهمية بمكان أن لا ننسى -ونحن نتحدث عن السلام ومصدره وأهميته- الفرق الكبير بين السلام والاستسلام. لقد بات من المعروف أن هناك من يغرينا بالسلام ويتحدث عن أهميته ومدى الحاجة إليه، وهو إنما يخطط لتغييب السلام وإحلال الاستسلام محله.

إن السلام بين الشعوب بل بين أفراد الأسرة الإنسانية إنما يعني الألفة التي تشيع فيما بينهم، فيتواصلون بدافع من تبادل الخدمات والقدرات المتنوعة فيما بينهم، دون إجحاف أو بغي من فئة منهم على أخرى. وقد علمنا أن جذوة الإيمان بالله إذ تهيمن على العقل إدراكا وعلى الوجدان تعظيما ومهابة وحبا، هي التي تبعث على رسم هذه العلاقة وتمد بين الأفئدة جسور الأخوة والسلام.

أما الاستسلام فهو نتيجة لمكيدة يخططها القوي متربصا بها الضعيف، مستغلا عجزه وضعفه. فإذا تمت الخطة وتحققت الغاية كان على الضعيف أن يرضى بالمصير الذي سيق إليه، وأن يتجاهل حقوقه التي جردت منه. فإن هو أبى وراح يتوثب للمطالبة بحقه مستنجدا بمن يطمع في عونه وإنصافه، غدا بذلك عدوا للسلام، مجندا لحساب الإرهاب.

إن الإسلام بمقدار ما يدعو إلى السلام ويشرع ضمانات وجوده، يحذر من الاستسلام ويربأ بالإنسان الذي كرمه الله أن يهون أو يذل لسلطان غير سلطان الله. وصدق الله القائل: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(آل عمران:64).