حضرت منذ شهور محاضرة لأحد الفنانين التشكيليين وهو أيضًا أستاذ بكلية الفنون.. تحدث الفنان الأستاذ عن الفن وجماله وكيف أنه طريق طويل يتطلب بذل الكثير من الجهد والعمل لصقل الموهبة وما إلى ذلك، ولكنه شد انتباهي كثيرًا حين تحدث عن فكرة حسن التسويق لعملك الفني، وأن هذا جزء كبير من نجاحك أن تكون لك القدرة على التواصل وعرض موهبتك، وأنه يعلم طلابه هذا الأمر بجانب تدريسه الفن (أي مهارة التواصل والتعبير عن الذات). لأن الفن في النهاية مهنة كأية مهنة أخرى تقدم منتجًا يعرض للناس، وأشار إلى أن بعض الناس ذوي المواهب المحدودة تمكنوا من الانتشار والاشتهار لا بفضل موهبتهم الفذة، وإنما بفضل قدرتهم على عرضها للناس، وقدرتهم على التواصل والتواجد في المجتمعات الفنية، واعتبر أن هذا ليس عيبا فيهم بقدر ما هو عيب في الموهوبين حقًا المنزوين الذين لا يستطيعون الظهور ولا يحسنون التعبير عن ذواتهم، وشبَّه الفنان الذي يرسم ويبدع ولا يحسن عرض فنه بشخص أقام حفلًا كبيرًا فرقص وغنى ثم صفق لنفسه وانصرف!..لم يشاهده أحد ولم يعلم بوجوده أحد.

راقت لي فكرته وأحسست أن فيها الكثير من الواقعية... فكم من الأشخاص الموهوبين من حولنا لا يشعر بهم أحد..و ما فائدة ان تكون موهوبا ولديك قدرات مدفونة .. لا يعلمها سواك، ولا تفيد بها أحدًا. أحيانًا يكون هذا الأمر راجعًا إلى الشخص نفسه، فمثلًا قد يخلط بين التواضع ومحو الذات .. فيظن خطًأ أنه إذا أعلن عن نفسه وما يمكنه أن يعمل أن ذلك نوع من حب الظهور ومدح الذات. وأحيانا يخشى التجاهل أو الرفض إن هو بادر وتصدر لأمر ما (تعرضت في عملي للتجاهل من أحد المدراء الجدد فلا يكلفني بأي عمل لسبب لا أعلمه، فأصابني الإحباط.. لم يتجاهلني وهو لا يعرفني جيدًا ولا يعرف قدراتي وما يمكنني القيام به؟!.. ولكن جاءتني نصيحة إنسان له خبرة أفضل مني في الحياة .. قال لي: من تعمد تجاهلك في أمر أنت جديرة به.. لا تستسلمي .. افرضي وجودك عليه بكفاءتك وحسن عرضك لقدراتك.. مع الوقت سيغير نظرته ويقدرك) وهذا كلام صحيح تمامًا.. لماذا تضع نفسك في إطار فُرِض عليك؟ ضع نفسك في الإطار الذي ترى نفسك جديرًا به وافرضه على الآخرين.

أحيانا يكون الإنسان غير واثق من قدراته أو يجهل أصلًا أن لديه ملكات معينة ويحتاج من يعينه على رؤيتها...وأحيانًا أخرى يعلم الإنسان بقدراته ومواهبه ولكنه يخشى التصدر للأمر، يقول لنفسه قد لا أنجح وأتسبب عندها بالحرج لنفسي...كل هذه الأمور تعتبر معوقات يضعها الفرد في طريق نفسه أحيانًا بسبب تصوراته الخاطئة عن نفسه أو خوفه من المبادرة... والحقيقة أنه لا عيب مطلقًا في أن تعلن عن نفسك وأن تطلب أن يوسد إليك أمر ما ما دمت قادرًا على أدائه أفضل من غيرك، بل إن عدم تصدرك لما أنت مؤهل لفعله هو الأمر المعيب حقًا... لا تظنه تواضعًا بل هو محوًا للذات.. وهو ما يفسح المجال لمن هم أقل منك لتولي الأمور.. نبي الله يوسف عليه السلام قال لملك مصر (اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .. أعلن عن رغبته في تولي هذا الأمر العظيم (خزائن الأرض: وزارة المالية حاليًا) ليكون الرجل الثاني في الدولة، القائم على كل مواردها وثرواتها... وعرض ما يؤهله لهذه المهمة الكبيرة: الأمانة والعلم، أي أنه تصدر لما هو متيقن بقدرته على أدائه أفضل من غيره. قد تقول لا أملك مهارة التواصل ولا أجيد التعبير عن نفسي وعرض أفكاري.. حتى هذا الأمر التغلب عليه يسير من خلال الدورات التدريبية والتجربة والمحاولة.

إذا لم تطرق الفرصة بابك اطرق أنت بابها... أمسك زمام المبادرة وقل(أنا لها) ما دمت متيقنًا أنك لها.