سأتحدث في هذا الجزء عن السبب الذي يجعل العالم الصناعي يمنع العالم التابع من التقدم، وأيضا سنتكلم عن مشكل البطالة كظاهرة اجتماعية متفاقمة بدون حل نتيجة الوضع في العالم التابع.

______________________________

الآن نحن تحت سيطرة نظام العولمة، الذي يحاول حشر كل شيء في خانته، حتى تُصبح البشرية ذا بعد واحد، لها لغة واحدة (اللغة الإنجليزية) وثقافة واحدة (الثقافة الغربية) وإقتصاد واحد (الرأسمالية) وسياسة واحدة (حكومة العالم التي تمثلها الأمم المتحدة) وإيديولوجية واحدة (الليبرالية الجديدة).

بالطبع، العالم الصناعي يرى في العولمة نظاما عقلانيا، يساهم في القضاء على الفوارق العالمية التي تؤدي إلى الحروب. فهم يَدَّعون أن المجتمع العالمي في حالة فوضى، لهذا لابد له أن يبني نظاما يتوافق عليه كل العالم، حيث يكون نظام تعاقديا تتوافق حوله كل الشعوب، حتى يستطيع السلام أن يبزغ ليقضي على ظلمات المشاكل التي تخنق الكرة الأرضية.

أحقا يريدون أن يقضوا على مشاكل الكرة الأرضية على هذه الأرض؟ وهل العولمة هي التي ستكون العصا السحرية لهذا؟ وهل العولمة نظام توافقي بين الشعوب؟ أم أنه مفروض من جهة على أخرى؟

الإجابة عن هذه الأسئلة ستكون تدريجية وغير مباشرة، فعن طريق تحليل الوضع العالمي تحت سيطرة العولمة ستلمع الأجوبة ببداهة في عقولنا.

كما قلنا سابقا، فإن العولمة كنظام، تساهم في استمرار الإمبريالية، التي تفرض سيطرة العالم الصناعي على العالم التابع، بطرق سلسة لا نُحس بضغطها، إلا مع مرور الوقت. فالعالم الصناعي الذي تقوده الولايات المتحدة، يرى في العالم التابع مصدرا للمواد الأولية وسوقا مهمة لمنتوجاته المختلفة (حتى الحرب تعتبر سوقا)، فإن نظرنا إلى العالم التابع من هذا المنظور فإننا سنستنتج أنه تحت ضغط المنافسة الغربية، فأية محاولة منه ليخرج من هذا الوضع، يؤدي به إلى عواقب وخيمة.

فالعالم الصناعي ليس غبيا ليترك العالم التابع يتحول إلى عالم يصنع، يتمكن بذلك من خلق مشارع صناعية خلاقة ومتقدمة. فهذا يعني -عند العالم الصناعي- أن العالم التابع يريد الإستقلال بذاته، ومن المنظور السياسي فهذا يعني أن العالم التابع يتمرد على أسياده.

إن تحول العالم التابع إلى عالم يصنع، يعني تغيير قوانين اللعبة فيما يخص الإقتصاد العالمي. فبتحوله إلى قوة صناعية سيؤدي إلى ثلاث نتائج مهمة، الأولى هي القدرة على تحويل المواد الأولية صناعيا إلى مواد قابلة للإستهلاك (حسب نوع المادة)، وهذا يعني أن العالم التابع سيقلص من تصدير مواده الأأولية إلى العالم الصناعي إلى درجة منخفضة جدا، ستؤثر على سهولة حصول هذا العالم (أقصد الصناعي) على المواد الأولية التي يحتاجها في صناعاته (خاصة وأن أغلب هذه المواد وأهمها توجد بالعالم التابع) . أما النتيجة الثانية فهي تمكنه (أي العالم التابع) من صناعة سلع ستُنافس سلع العالم الصناعي في الأسواق حول العالم، وهذا يعني أن أرباح هذا العالم (الصناعي) ستتقلص إلى درجة قد تؤدي إلى خلق مشاكل اجتماعية داخل بلدانه (كالبطالة). أما النتيجة الثالثة وهي سيصنع وسائل انتاجه داخليا، مما يعني أنه سيفك التبعية بالعالم الصناعي فيما يخص هذا. فوسائل الإنتاج –كما هو معروف- تُستخدم لمدة مُعينة ثم تتعرض للتلف، فيضطر مستخدمها إما إلى استبدالها أو إصلاحها أو تركها وشراء أخرى، وكل هذه الأمور يعتمد فيها العالم التابع على العالم الصناعي، مما يضعه دائما في موقف المضطر المحتاج، وهذا أمر يضعه دايما في مرتبة التابع، أما إن صنعها بنفسه فسيفسخ هذا العقد الضمني الملعون (وصناعة وسائل الإنتاج هي أهم حدث يمكن أن يقلب المعادلة).

ليس هذا فقط، فالعالم التابع سيستطيع أن يؤدي ديونه، ويتحول إلى عالم مستقل ذاتيا من حيث منتوجاته الصناعية، فيصبح قوة إقتصادية يستطيع أن يُدخلها في علاقاته مع العالم الصناعي كوسيلة ضغط، وهذا يعني أن دوره سيُصبح مهما في الصراع حول المركزية العالمية (وهذا ما يحاول العالم الصناعي إبعاد تحقيقه).

إن العالم الصناعي بعجرفته، وبما حققه من نظام الإستعمار قبل سنوات، وجد أن مكانته لا يستطيع أن يهددها أي موجود، لهذا يحاول ترك الوضع كما هو، من خلال إبعاد العالم التابع من تحقيق نهضته، سواء عن طريق الضغوطات الإقتصادية (كتهديده بسحب استثمارته من داخله أو بفرض عقوبات اقتصادية عليه كما حدث مع السودان وكوريا الشمالية وكوبا) أو عن طريق الضغوطات السياسية (كتمويل انقلاب كما حدث في إيران على محمد مصدق، وفي تشيلي على الرئيس سلفادور أليندي أو كالإنقلاب الفاشل على رئيس فنزويلا هوغو تشافيز.. أو كالقيام بالغزو كما حدث مع أفغانستان و العراق وبنما) أو عن طريق ضغوطات 'عوالق الإستعمار' التي تخترق مراكز القرار في العالم التابع. إضافة إلى إثارة مشاكل إجتماعية داخله (كالصراعات الطائفية) باستخدام الإعلام.(1)

إذن العالم الصناعي يستعمل كل الوسائل الممكنة ليبقي العالم التابع قابعا تحت سيطرته، وأية محاولة من الأخير للخروج من هذا الوضع يعني إثارة مشاكل عواقبها وخيمة.

لكن هذا الوضع الذي يحاول العالم الصناعي تحقيقه في العالم التابع، سيفجر مشاكل إجتماعية ذات صبغة اقتصادية، ستؤدي إلى زعزعة الإستقرار في أرجاء كل العالم، سواء داخل العالم التابع(والربيع العربي مجرد بداية) أو حول العالم الصناعي.

إن العالم التابع يتميز بالتكاثر السكاني المتسارع، وليس ذلك فقط بل أن الفئة النشيطة التي يتراوح عمرها بين 16 سنة و 60 سنة هي الفئة التي تُشكل النسبة الكبرى من عدد السكان. وهذا يعني أن الطلب على العمل سيكون مرتفعا (سنهمل إشكال التعليم والتطبيب والسكن والهجرة وسنتحدث فقط على البطالة لأهميتها، رغم أن هناك علاقة معقدة وضرورية بين هاته المشاكل، لكن وللتبسيط سنضطر لوضع البطالة كنموذج لهذه المشاكل).

فإن أخذنا ما يتوفر عليه العالم التابع من شركات ذات مصدر خارجي، ومن ثروات طبيعية (فلاحية وطاقية وأولية)، ومن مؤسسات عامة وخاصة (ذات الإطار الخدماتي) فإن هذا لن يوفر فرص الشغل التي تتناسب والعدد السكاني الذي يتزايد ارتفاعه. فالسكان يتزايد عددهم بوتيرة مرتفعة، أما فرص الشغل فتبقى ثابتة أو ترتفع بوتيرة منخفضة، وهذا يؤدي إلى تفاقم البطالة (وسأتحدث في مقال آخر عن نفسية البطالي التي يمكن أن تخلق منه أية إمكانية تدميرية)، فحتى لو قامت دول هذا العالم، بخلق فرص الشغل بما يسمى ب'إنعاش الشغل' أو بفتح أوراش ومشارع تنموية، أو بفتح الأابواب أمام مزيد من الإستثمارات (التي تهرب جل رؤوس أمواله نحو الخارج) فذلك لن يقضي على هذا التفاقم، فالعدد يتزايد كل عام، إضافة إلى أن الميزان التجاري والناتج الخام الداخلي ضعيفان ولن يستطيعا تقليل ضغط هذا التفاقم (هذا إن أهملنا الفساد الذي يعرفه هذا العالم).

ستكون البطالة إذن ظاهرة تتفاقم كل يوم، فإن وضعنا أمام أعيننا الأعمال الهامشية (كالعمل ليوم أو اسبوع أو حتى شهر في مجال معين) التي تُخفض من وقع هذه الظاهرة، فإنه مع مرور الوقت وبتزايد السكان، سيجد العالم التابع نفسه أمام بطالة مدمرة أسميها "ببطالة اللاعودة". حيث سينقسم البطاليون بسبب الفراغ وفقدان الثقة بالمجتمع والنفسية التي ستتولد داخلهم إلى قسمين: قسم المثقفين (يحاولون التغيير) وقسم الوحوش (يحاولون الهجرة) (سأناقش هذا في مقال آخر إن شاء الله)، وكلاهما ذا عقلية ثورية.

ستُخلق طبقة جديدة مدمرة لها عقلية الإنتقام سيدفع ثمنها العالم التابع أولا (بثورات قادمة ذات صبغة اقتصادية) وبعده العالم الصناعي (بثورة شاملة ذات صبغة حضارية) لن يستطيع أحد إعادة الأمر إلى سابق عهده (لهذا أسميها ببطالة اللاعودة)، فسهم الزمن سيستمر إلى الأمام ولن يعود إلى الخلف.

_______________________________

(1): راجع الكتب الأتية للمزيد من التفاصيل فيما يخص التدخل في دول العالم التابع من طرف العالم الصناعي (خاصة الولايات المتحدة):

-"الإغتيال الإقتصادي للأمم، اعترافات قرصان اقتصاد" للكاتب الأمريكي "جون بركنز"..

________

  • "ماذا يريد العم سام؟"

-"الأسلحة الصامتة للحروب الهادئة" ... والكتابين معا يعودان للكاتب وعالم اللسانيات المعروف "نعوم تشومسكي".

_________________________

بقلم: #محمد_أمزيل