لا توجد قضية علمية / دينية أثيرت حول العالم على مدى قرنين تقريباً ، أكثر سخونة من ( نظرية التطوّر ) ..

هنا في حسوب I/O يوجد مجتمعين من أفضل ما يمثّلان الحوار الجيد بخصوص هذه القضية .. مجتمع نظرية التطور ، ومجتمع آخر لدحض هذه النظرية .. وهو ما يجعل الامور افضل ، ومبنيّة على نقاشات منهجية منظّمة ..

ولكن .. قبل أن تؤيد النظرية .. أو تهاجمها .. انت تحتاج لأن تفهم بعض الأمور بخصوصها .. لا لشيء إلا ( لتعرف ) ما هو قاعدة الموضوع بالضبط ، ومن ثمّ تنطلق مؤيداً أو مهاجماً ..

قبل الدخول في نقاشات .. يجب أن تفهم الموضوع أصلاً .. أو على الأقل تصحح مفاهيمك السابقة عنه..

=======

  • التطوّر لا يقول أن الإنسـان أصله قرد .. أرجوك ، اخرج هذه الجملة من رأسك تماماً منذ هذه اللحظة .. التطوّر يقول أن ( الإنســان ) و ( القــرد ) لهمــا أصل مشتـــرك ..

أي أن الإنسـان والقرد لهمـا أب واحد .. هذا الاب ليس قرداً ، وليس إنساناً .. هو يحمل صفات الإنسان والقرد معاً .. وهذا الأب انقرض ، لأنه لم يعد قادراً على التكيّف مع البيئة ، بنفس مقدار تكيف الإنسـان والقرد ..

منذ هذه اللحظة ، بمجرد ان تبدأ النقاش مع شخص يخبرك ان التطور يقول أن ( الإنسان أصله قرد ) .. أغلق النقاش فوراً ، لأنه لم يقرأ سطراً بخصوص هذه النظرية ..

=========

  • التطور لا يقول بضرورة صعود الكائنات من مرتبة أدنى إلى أعلى .. خطأ .. بل يقول أن البقاء لمن لديه القدرة على ( التأقلم ) .. بمعنى آخر ، كل كائن تراه امامك الآن في كوكب الأرض ، هو قادم من نهاية سلسلة تطوّر جعلته ( قادر على البقاء ) ..

  • كلمة ( نظرية ) التي تسبق التطوّر ، عدد هائل من الناس يعتبرونها دليل على ضعفها .. طالما هي ( نظرية ) وليست ( حقيقة ) فلا تصدعون رؤوسنا بها ..

خطأ .. كلمة ( نظرية ) في لغة العلم ، معناها مجموعة من الادلة العلمية التي تصب جميعها لمصلحة مصداقيتها ..

مثال :

البشر عرفوا ان الأرض ( كروية ) منذ قديم الزمان .. حتى تم إثباتها رياضياً وفيزيائياً بشكــل كامل في القرون الوسطى .. كل هذه الحالة تعد في إطـار ( نظرية ) .. امر منظور .. رغم انها ( مؤكدة ) حسابياً وبمئات الأدلة المنظورة ..

متى تحوّل الامر الى ( حقيقة ) ؟ .. عندما صعد البشر الى الفضاء ، واستطـاعوا ( رؤية ) كوكب الأرض كروياً .. وقتها الامر لم يعد نظرية إطلاقاً .. هو ( حقيقة ) مطلقة ..

رغم ان البشر عرفوا هذه الحقيقة ( نظرياً ) منذ مئات السنين .. ولكنها صارت حقيقة عند ( المعاينة ) ..

اذاً ، النظرية - أي نظرية - ( إذا كانت عناصرها قوية ) فهي ربما تمهيد للحقيقة .. وليس معنى ذلك انها ( غير ذات أهمية ) لمجرد انها اسمها نظرية ..

=========

هل هناك ثغرات في النظرية ؟

نعم .. يوجد ثغرات ومشاكل حقيقية .. منها على سبيل المثال وجود ( الجمال ) من حولنا ، لأن النظرية كما ذكرت توضح ان البقاء للأكثر تأقلماً .. وعندما تجد ( طاووساً ) رائعاً ، فهذا الشكل أكثر ما يجذب الحيوانات المفترسة التي من المفترض انها تقضى عليه بشكل سريع .. إلا أن وجوده استمر حتى يومنا هذا..

مما يعني ان هناك خلل في مفهوم ( البقاء للأكثر تأقلماً ) .. وان هناك عناصر اخرى تدعم وجود الانواع ..

هذا طبعاً جزء بسيط من انتقادات النظرية .. هناك امور اخرى كثيرة ، اكبر وأعقد بخصوصهاً ..

النظرية تقول أن التطور بين الانواع يحدث على مدار ملايين السنين ، وليس بضع عشرات او مئات .. معنى ذلك أن ( رصد ) تحوّل كائن الى كائن آخر هو امر مستحيل - عملياً - .. نحتاج الى ملايين السنين لنرى تطوّر عصفور الى كائن آخر ..

اعتماد دارون بشكل اساسي في نظريته كان على الاحفوريات التي جمعها في السفينة ( بيغل ) ، وأدلة تشير الى ذلك بشكل علمي منهجي .. لكن ( رصد ) هذه العملية بعيوننا .. أمراً مستحيل حتى الآن ، لأنه يحتاج الى اطار زمني كبير جداً ..

=======

  • بعد دارون .. هل الموضوع مازال غامضاً بنفس الدرجة ، منذ لحظة تدشين هذه النظرية حتى الآن بلا تقدم ؟

لا .. هناك تقدم واضح علمياً بعد بزوغ علم ( الجينات ) الذي لم يكن موجوداً وقت داروين ، وخرج منه علوم كاملة قائمة على هذا الأساس .. كثير منها يدعم اتجاه النظرية ..

وحتى الأحفوريّــات الجيولوجية تؤكد أن هناك ما يمكن وصفه بـ ( أشباه بشر ) عاشوا على هذه الأرض منذ وقت طويل جداً ..

=======

هل تنفي نظرية التطوّر وجود الخالق ؟

أرجوك انتبه لهذه النقطة تحديداً .. الإجابة : لا ..

النظرية لا تعمل على مستوى الكون Universe .. هي تعمل على مستوى البيولوجيـا العضوية ..

النظرية تقول لك ان الحياة بدأت من خلية احادية .. السؤال : من أوجد هذه الخلية أصلاً ، ودبّ فيها الحياة ؟ .. النظرية ( تعترف ) بشكل كامل ، ان الحياة بدأت من خلية ( فيها حياة ) ..

حتى جد ( تشارلز دارون ) ، وكان باحثاً في هذا المجال أيضاً ( إراسموز دارون ) ، كان قد كتب كتاباً يقول فيه بالنص : أن الله خلق الحياة بهذه المنهجية لتتطوّر ..

=========

  • طيب ، طالما النظرية لا تنفي وجود الخالق .. لماذا تعتبر هي أساس الصراع الكامل بين العلم والدين حالياً ؟

لأن النظرية ( نعم ) تصطدم بـ ( الدين ) .. ولكن لا تصطدم بمفهوم ( الألوهية ) ..

النظرية ( نعم ) تصطدم بـ ( المنهج الديني ) ، لأنها تقول لك أن البشر الحاليين متطوّرين من أسلاف أخرى .. فظاهرياً يبدو انها على تعارض مباشر مع قصة الخلق ، ( آدم وحوّاء ) المذكورة في كل الكتب السمــاوية الثلاثة ( التوراة ، الإنجيل ، القرآن ) ..

 إذاً ، النظرية لا تصطدم بمفهوم ( الألوهية ) بمعنى نفي وجود خالق .. لكن النظرية تصطدم اصطداماً مباشراً مع ( منهجيات الأديان ) ..

بمعنى آخر ، النظرية - ظاهرياً - تنفي الأديان .. ولكنها لا تنفي وجود الخالق ..

  • هل النظرية تصطدم مع كل الأديان ؟

ظاهرياً ، بالتأويل الظاهري .. نعم .. ولكن في التأويلات الرمزية ، لا .. في الإسلام ، كمثال ، يوجد الكثير من المؤلفات والكتب والمحاضرات التي تفسّــر معاني مدهشة في القرآن ، بأنها إشارات واضحة للتطوّر .. ولكن لم يتم الإجماع عليها بلا شك ..

ملحوظة :

مثال الإسلام ذكرته هنا لأن التيار القابل للتطوّر في الإسلام متصاعد فعلاً ، ولأنه حصيلتي الشخصية من القراءة في هذا الموضوع .. ولم أقرأ بعد في أدبيات مسيحية أو يهودية تقارن بين النظرية وهذه الأديان ..

==========

  • هل كان تشارلز دارون - مؤسس النظرية - مُلحداً ؟

كلا .. كان مسيحياً ، ودُفن في كنيسة ويست منستر آبي ، بجوار العالم العظيم : إسحاق نيوتن .. كل منهما كان مسيحياً ( معتنقاً للدين )..

  • طيب لماذا يصمم ملحدو العصر الحديث تحديداً في الاعتماد الكامل على هذه النظرية لنفي وجود إله ، وليس فقط نفي الأديان ؟

لأنهم يركّزون على تأويل مختلف للحظة البداية الأولى .. ريتشارد دوكنز ذكر في أكثر من مرة ، أن الخلية الأوّلية التي بدأت منها الحياة ، هي خلية وضعها ( مخلوقات فضائية ) في الأرض ، ثم تركوها .. بمعنى أنه يحـاول أن ينفي ان إله خالق هو الذي خلقها ..

ولكنه نسى ان يوضح ، من الذي خلق المخلوقات الفضائية ، التي وضعت هذه الخلية الحية في الأرض !

يعني هو مؤمن ضمنيـاً بالتصميم الذكي للحياة البيولوجية الأرضية .. ولكن مشكلته - كعادته - مع المصمم نفسه ..

===========

أخيراً .. ارجع لهذه المصادر كلها بعد انتهاءك من قراءة هذه المساهمة :

1 - كتاب ( النظريات العلمية ومكتشفوها ) .. له ترجمات عربية مختلفة .. اقرأ من خلاله رحلة دارون واكتشافه للنظرية ، وطريقة حياته وفهمه للوجود والنظرية نفسها .. ( تم اقتباس مقولة أراسموز دارون من هذا الكتاب )

2 - كتاب ثلاث قصص علمية – د. أحمد شوقي

3 - كتاب داروين مترددًا – ديفيــد كوامان

4 - اقرأ في نقد نظرية التطوّر ، صفحة كاملة ( مميزة ) على ويكيبيديا .. لها صفحة عربية أيضاً ، ولكنني أشير للصفحة الإنجليزية لأن الصفحات العربية في ويكيبيديا تكون أحياناً مسيّسة وغير مضمونة .. وانا لم أراجعها حتى الآن..

https://en.wikipedia.org/wi...

5 - اقرأ المقال :

الى جانب عشرات الفيديوهات التوضيحية ( العربية والإنجليزية ) التي تشرح لك النظرية ، بأسلوب سهل وبسيط ..

=========

للمرة الاخيرة .. قبل أن تصدّق شيئاً بإسم العلم .. أو تهاجم فكرة بضراوة بإسم الدين .. أبسط شيء يمكن أن تفعله هو أن تفهم أكثر بخصوص هذا الشيء .. ان تعرف قبل أن تكوّن رأياً ..

والمعرفة لا تكون أبداً من خلال ( أخبرني صديقي ونحن جالسين في المقهي ) .. او ( أخبرني أبي ونحن في غرفة الصالون ) .. المعرفة تكون من الكتب والمصادر الموثّقة ..

اعرف أولاً .. افهم أولاً .. ثم اتفق ، أو اختلف ، او اعترض .. كما يحلو لك