منذ سنتين، أصبحت لنا قناة تواصل مع الأساتذة في الكلاسروم، ورغم عودتنا إلى الدوام الحضوري، إلّا أن التواصل بقي مفتوحًا، وكثير من المواد الدراسية بقيت منشورة هناك.

لي عدّة ذكريات اقتبستٌ فيها جملًا من أشعار عربية فصيحة في تواصلاتي مع الأساتذة، وقد نجّتني تلك الرسائل والإيميلات من مواقف مُحرجة، أو سالبة لبعض الدرجات، وسأقصّ عليكم بعض القصص، وليس هدفي الحديث عن حياتي، بقدر أن أعرّفكم ببعض القصائد الجميلة، وطرق تضمينها في رسائلنا، فتصبح من كلامنا المنطوق، بدلًا من أن تكون تحت تراب الكتب، ولأثبت لكم أنّ العربية القديمة، هي عربية حديثة، وإن ذمّها الطُماطم الأعاجم!

وقبل أن أبدًا، طُماطم جمع طِمطم، وهو الأعجم الذي لا يُفصح، وقد وردت في بيت عنترة إذ قال

تأوي لَهُ قُلُصُ النَّعَامِ كَمَا أَوَتْ ... حِزَقٌ يَمَانِيَةٌ لأَعْجَمَ طِمْطِمِ

وهو بيت يصف ميل إناث النعام إلى ذكورهن، كما تأوي جماعة من اليمن، وهم عرب أقحاح، إلى عبد أعجم طمطم، يتجمعون حوله، ويتفقدّونه بغرابة.

نسيت تسليم امتحاني

نسيتُ مرّة تسليم اجابات امتحاني في امتحان نصف سنة يُسمّونه المد، لا أدري ما حصل لي لكنّي لم أضغط على Submit الأخيرة، وركضتُ مسرعة لمتابعة مباراة لكرة القدم، فتحت حاسوبي في اليوم التالي ووجدتُ أنّ الشاشة تُخبرني "هل أنت متأكد من تسليم الإجابة؟" لطمت خدّي وتذكرت تسرّعي، خصوصًا وأنّي لم أخطئ إلّا خطئين من 30 سؤال، حاولت التواصل معهم من دون فائدة.

ذهبتُ في اليوم الثاني لمسؤولة الفرع، فلم أجدها، وكرّرت الزيارة في اليوم الذي بعده فما كانت موجودة أيضًا، فكتبتُ لها شاكيًا حرّ الصيف وعدم اللقاء:

كم قطعنا دونَ سلمى مهمهًا... نازحَ الغور إذ الآلُ لمَع
في حرورٍ يُنضَج اللحمُ بها ... يأخذُ السائرَ فيها كالصقع

وهي أبيات لسويد بن كاهل، يقول فيها أنّه تعًوّد أن يقطع الصحاري الواسعة في سبيل سلمى، صحراء يلمع الآل (السراب) فيها، وينضج اللحم، ويُصيب السائر فيها صقعًا وضربة شمس.

أعجبها ما كتبتُ من البيان، وقد أطرت الفصحى في كلامي، ثمّ أعادت لي الأمتحان مرّة أخرى، ولقد كانت هذه ألذّ عشرة درجات استرددتها!

نسيت ملئ استمارة الحضور

تكون لنا محاضرات على الزوم، ويكون معها استمارة حضور منفصلة تُرسل على الإيميل، وقد استيقظتُ متأخّرًا في أحد صباحات رمضان، وحضرتُ على الزوم من دون أن أملئ استمارة الحضور، وصدّقني أنت لا تريد أن تحضر هذه المحاضرات الصباحية إلّا لأجل درجة الحضور.

بعد أن انتهى اليوم، تذكّرت أني لم أملئها، فأرسلتُ إلى الطبيب إيميلًا أصف له حالي بعد سهر السحور، وأنّي صحوت متأخّرًا عن المحاضرة، فأصبحتُ كقول أمرئ القيس "ثوبًا نسيتُ وثوبًا أجرّ" ولحسن الحظّ كنت قد ذكّرته بأحد تفاعلاتي معه في المحاضرة، فقبل منّي ورضي الله عن ملك كندة على فصحاته!

قسمتُ نفسي نصفين

لم أستطع أن أحضر محاضرات أحد الأيّام بسبب عارض صحّي، ولسوء حظّي قد وضع لهم الأستاذ أمتحانًا بدرجات، كنت أريد تعويض المحاضرة مع المجموعة الأخرى، إلّا أنّه في نفس التوقيت توجد محاضرة وعليها درجات حضور في مجموعتي الأصلية.

قلتُ ما لها إلّا المفضليات، فكتبتُ إلى أستاذ مجموعتي الأصلية ايميلًا بعنوان "طلب غفران"

لعلّه طلب غريب، لكنِّي توعّكتُ اليوم ولم استطع حضورًا لمحاضرة الباثولوجي عند الدكتور .... وقد بلغني أنّه جعل لهم امتحانًا. 
وددتُ لو أنِّي قسمتُ نفسي شقّين، فكنت شرقًا وغربًا، لكنِّي أعزِّي نفسي أن ما كان لبشر قبلي هذا. 
وما زهدتُ فيكم، لكنَّ كما يقول طرفة "بعض الشرِّ أهون من بعض" فلديّ من تسجيلاتكم المصوّرة لطلبة العام الماضي ما تكفيني شيئًا، وأنت على ما أنت من شارح مُجيد بها. 
فهل تغفرُ لي اجترام هذا الجرم؟ ومثل عفوكَ يُطلَبُ
هامش: في المفضّليات، للحارث بن وعلة الجرمي قصيدة، يذكر فيها فراره من معركة، ثم يصوغ عبارة على لسان شخص اراد منه نجدة للهرب فيقول "يُذكّرني بالِرحم بيني وبينه .. وقد كان في نهدٍ وجرمٍ تدابرُ" 
وأنا قصصتُ هذي لأذكركم بالرِحم بين شعبة الباثولوجي والطبّ العدلي، بل بالرحم بين الدكتور .... والطب العدلي، فقد ذكرتم في محاضرة السموم الأخيرة أنّ والد الدكتور .... ، الأستاذ المرحوم ...... كان معاونًا للمعهد الكيمياوي ثم مديرًا له، وقد شارك في اعطاء محاضرات للطبِّ العدلي لموضوعات السموم. 
ولعلّ هذا رِحمًا ليس كالرحم بين جُرم ونهد، وليس فيه تدابر، إنما كلّه صفو مودّة! 

فقبل منّي، ولم يخصم منّي درجة حضور، وقال لي "رسالتك مميزة وبليغة"

قصيدة الحارث قصيدة لطيفة خفيفة، وهذا رابطها

طلب اعتذار

الفصحى تخلّصني من مشاكل، لكنّها تُدخلني في مشاكل أخرى، وأنا دمّي حار وأنتفض بسرعة، فرأيت مرّة قرارًا لم يُعجبني، فشحنتُ عليهم برسالة غليظة، وما شفع لي أنِّي ختمتها بمودّتي، وأيّ مودة تُعطى بعدما قلتُ لهم "آما آن لُشعبة الطبّ الباطني أن ...."

وصلني من طلّاب المجموعة الثانية أنّ الطبيبة أذاعت أسمي في احدى المحاضرات، وقالت أين صاحبكم الذي يتشكّى على الكلاس؟ وقد فهمت من رسالتي غير مرادها فظنّته هجومًا على جهودهم وقراراتهم، والحقُّ أنِّي كنتُ اطيع شهوة الكتابة فقط، وما همّني ذاك القرار من البداية.

خشيتُ على درجاتي من هذه الطبيبة الصارمة، فلو رأتني في أمتحان الأوسكي لطار من درجاتي الكثير، حتّى لو لم تفعل لي شيئًا فمن تذكّر الحدث فقط ستتطاير المعلومات منّي، فكتبتُ لها رسالة اعتذار، وختمتها بأبيات النابغة:

أَتاني أَبَيتَ اللَعنَ أَنَّكَ لِمتَني ... وَتِلكَ الَّتي أُهتَمُّ مِنها وَأَنصَبُ
فَبِتُّ كَأَنَّ العائِداتِ فَرَشنَني ... هَراساً بِهِ يُعلى فِراشي وَيُقشَبُ
حَلَفتُ فَلَم أَترُك لِنَفسِكَ رَيبَةً ... وَلَيسَ وَراءَ اللَهِ لِلمَرءِ مَذهَبُ
لَئِن كُنتَ قَد بُلِّغتَ عَنّي خِيانَةً ... لَمُبلِغُكَ الواشي أَغَشُّ وَأَكذَبُ

وقد قبلت اعتذاري بجملة واحدة، وأنا فعلًا كالنابغة في ففراشي هراس (شوك مؤلم) إلى حين امتحان الأوسكي!