أنا شخصيا ملحد , من الواضح أن الكثيرين يتساءلون : "لماذا هناك ملحدون؟".

قبل أن تطلق أحكامك , لابد أن تعرف أن هناك احتمالين :

1- إما أن الملحدين أغبياء جدا؟

2- أو أن هناك أشياء يعرفونها في المنطق والفلسفة لا تعرفها أنت؟

وبالنظر إلى أن منطقيين وفلاسفة من امثال برتراند راسل مثلا, هم أيضا ملحدون : فهذا يعني أنه يجب أن تأخذ الموضوع بجدية اذا أردت أنت تكون عقلانيا بالفعل. وإلا فعدم اخذ الموضوع بجدية, سيجعلك كالذي يعتقد أنه افضل من أشخاص أفنوا اعمارهم في دراسة المنطق والفلسفة, وحتى العلم.

إلى هنا : اذا كنت عقلانيا, فيجب ان تقول بأن النقطة الثانية اكثر منطقية : لماذا لا احسن الظن بالآخرين, وافترض أنهم بالفعل لايجحدون ولا ينكرون لمجرد الانكار, لماذا لا أفترض على الاقل بأنهم يبحثون بالفعل عن الحقيقة؟

ربما أنت أيضا تستغرب كيف أن البعض لا يرى بأن من المنطقي وجود إله, أو ربما ليست لديك صورة عما في عقل الكثير من الملحدين, وأعني هنا : الملحدين الذين يكون سبب إلحادهم "الإشكالات الفلسفية والمنطقية والعلمية لفكرة الإله بحد ذاتها", ولا أعني هنا : الملحدين الذين يلحدون لأسباب أخلاقية أو اجتماعية مثلا.

أنا من النوع الأول : لماذا لست من النوع الثاني؟ لماذا لا أعتبر شخصيا أن وجود الشر في العالم ليس دليلا على عدم وجود الإله؟

لست من النوع الثاني لأن وجود الشر لايستلزم بالضرورة عدم وجود الإله , لعدة أسباب منطقية :

  • النقطة الأولى: شخصيا أرى أن الشرط الوحيد في الإله, هو القدرة على خلق الكون. لا أرى أنه من الضروري أن يكون خيرا أو رحيما أو حكيما أو غيره من الصفات : الصفة الوحيدة التي اعتقد انها تشترط في الإله , اذا كان موجودا, هي القدرة على خلق الكون... وفقـــــــــــــــــط.

  • النقطة الثانية : لا يشترط في الإله أن يكون أزليا, أو لايموت, أو قادرا على كل شيء, ... يكفيه ان يكون قادرا على خلق كون واحد, بحيث يقوم بضبط الكون لكي يستمر الكون مدة محدودة, ثم ينهار الكون. بالضبط كالميكانيكي الذي يصنع سيارة, يموت الميكانيكي لكنه قد ضبط السيارة على العمل.

بمعنى , اذا كان الاله موجودا, فمن الممكن ان يكون ازليا وخالدا لايموت, لكن هذه الصفة مثلا, ليست ضرورية ...كما قلت من قبل : الاله لو كان موجودا, فيكفيه فقـــــــــــــــط أن يكون قادرا على خلق كون واحد ككوننا, بحيث يستمر الكون مدة معينة قبل انهياره.

وكما تلاحظ فأنا لا ابني في عقلي تلك الصورة للانهائية الكبيرة للإله, بل أبني عنه فقط الصورة الكافية لتفسير الكون , في حال كان التفسير هو وجود الاله.

  • النقطة الثالثة : نفس الشيء بالنسبة للخير والشر , أنا لا اعتقد أن الاله لابد أن يكون اخلاقيا, او لابد أن يهتم للخير والشر, أو أن يكون حكيما أو رحيما أو عليما أو غيره ... كل ما أراه شخصيا هو أن يكون الاله له صفة واحدة كافية تماما : وهي فقــــــــــــط خلق الكون , لاحظ تشديدي الدائم على كلمة "فقط".

لأنني أرى أنه لايوجد مانع منطقي من أن يكون الإله شريرا, أن يكون قد خلق الكون وفي نيته أن يرمي الجميع في النار بعد الموت... أو أن يكون في نيته أن ينهي العالم اليوم وينتهي كل شيء : ليس هناك شيء منطقي يجبرني على القول أن الإله لابد ألا يكون عبثيا, لم يسبق لي أن تحاورت مع إله من الآلهة لكي أعرف بالضرورة كيف يجب أن تفكر الآلهة لو كانت موجودة, نعم : نحن نحب أن تكون الآلهة رحيمة عليمة حكيمة وغيره...لكن منطقيا : يكفي أن تكون قادرة على خلق الكون, لايهم كم عددها, او ما صفاتها الأخرى.

لأن إلها شريرا قادرا على خلق الكون, سيكون تفسيرا صالحا بالضبط كتفسير آخر يقول أن الإله خير... معنى هذا أن كون الإله شريرا او خيرا او محايدا من الناحية الاخلاقية, لايؤثر على وجودنا أو عدم وجودنا في شيء, أخلاق الإله لا تهم في أي تفسير وجودي.

لهذا السبب , فاعتراضي على فكرة الاله ليس لسبب أخلاقي, لأنه حتى ولو كان هناك شر, فهذا بالنسبة لي لا يصلح حجة جيدة للقول أن الإله على الأغلب موجود.

_______________

في الواقع, سبب كوني ملحدا, هو لأسباب منطقية, فلسفية و علمية فقط. تأمل معي بشكل منطقي :

نفترض أن الإله موجود, وأنا أعني هنا : الإله الذكي , كلمة "ذكي" في كلامي تعني : كائنا له القدرة على اتخاذ قرارات, لديه وعي بذاته, لديه ادراك , لديه معرفة , لديه حكمة, لديه علم... هذا الكائن هو المصمم الذكي : الخالق الذي أراد أن يقوم بفعل الخلق , ثم خلق الكون. بالضبط كما قد يرغب أحدنا في فعل, ثم يأتيه.

هذا هو ما أعنيه بكلمة "إله ذكي" .

تأمل معي هنا الآن , بالمنطق والعقل , وبدون استخدام أي شيء نقلي أو عاطفي : لاثبات او نفي وجود الإله, او على الاقل ترجيح هذا او ذاك, لابد من تجنب استخدام العاطفة : لأنه عاطفيا, جميعنا نرغب في أن يكون هناك إله, والعاطفة ستجعلني مثلا أنحاز الى وجوده.

وهذا ما لا أريده.

لهذا, سأضع العاطفة جانبا, وأعتمد على المنطق فقط :

1- نحن نعرف بالاستقراء فقط أن الشمس ستشرق غذا على الأرجــــــــــــــــح , لأنها فعلت ذلك بالأمس, وقبله وقبله ...

2- نحن نعرف أن "سمير" , وهو كائن مجهول, انسان على الارجح, لأن اغلب من نعرف أن اسمهم سمير هم بشر.

3- نحن نعرف أيضا أن سمير , على الارجح دائما, له 5 اصابع في كل يد ... لأن اغلب من هم بشر لديهم ايدي بـ 5 اصابع.

4- نحن نعرف أنه لو تناولت السم, فعلى الارجح دائما, ستموت. لأن لدينا تجربة مع السموم, وعرفنا أن اغلب من يتناولها يموت.

كل هذه الأمثلة وغيرها تسمى : المنطق الاستقرائي... تأمل معي الآن هذا المثال :

1- نحن نعرف بالاستقراء , أن الأغلبية الساحقة من الكائنات الذكية هي كائنات لها أدمغة معقدة.

2- كلمة "الأغلبية" في الجملة الأولى, مجرد كلمة جدلية, لأننا في الواقع لم يسبق أن رأينا كائنا بسيطا وذكيا في نفس الوقت, لم يسبق أن رأينا صخرة أو ورقة أو طاولة ذكية : الأشياء التي تكون ذكية تكون لديها أدمغة معقدة جدا.

3- حتى الحواسيب والهواتف الذكية تكون أيضا بتعقيد أصغر من تعقيد الدماغ, لكنها ايضا معقدة.

الاستنتاج : أي كائن ذكي, هو على الارجح سيكون معقدا, بنسبة يقينية تقترب من 99.99 بالمئة. لا أريد أن أقول 100 بالمئة, لأنه قد تكون هناك صخرة تسبح في فضاء الكون, في مكان بعيد, بحيث تعرف هذه الصخرة أنها عاقلة. لكن هذا الاحتمال ضئيل جدا من الناحية الاستقرائية.

اذن : من كل النقاط السابقة, يتضح أنه من السليم جدا استقرائيا ومنطقيا أن أقول : إذا كان الإله ذكيا, فعلى الارجح, لابد أن يكون معقدا, ويجب أن يكون تعقيده بقدر حجم ذكائه وقدراته الإدراكية والعقلية.

تعقيد الدماغ كبير جدا, لكي نتمكن من التفكير والادراك واصدار القرارات وغيرها, الحاسوب معقد لكي يقوم بمعالجة المعلومات والقيام بعمليات رياضية بسيطة نسبيا ... وأي كائن يمكنه ان يقوم بقرارات اكثر واعقد , وأي كائن لديه علم ومعرفة غير محدودة, لابد أن يكون تعقيده غير محدود ايضا : الإله يجب ان يكون دماغا, سواء ماديا او روحيا, معقدا جدا جدا جدا جدا جدا جدا... لمالانهاية.

تصور معي هذا التعقيد الذي يجب ان يتوفر ليكون بهذا الذكاء؟

قد تقول لي صديقي : لا , الإله لا ينطبق عليه ما ينطبق على مخلوقاته : الإله ليس معقدا, انه مجرد روح , وهو استثناء من قاعدة كون الكائنات الذكية هي كائنات معقدة.

لكن مثل هذا الاعتراض, هو اعتراض فيه مغالطة منطقية كبيرة جدا , وتؤدي إلى نتائج خطيرة جدا ... عندما قررتُ أن أضع العاطفة واستخدم المنطق والعقل فقط, فيجب أن احترم جميع القوانين والقواعد المنطقية لتحليل الموضوع.

هناك في المنطق والفلسفة, توجد مغالطة منطقية تسمى : المرافعة الخاصة, او الاعفاء الخاص Special Pleading Fallacy

الإعفاء الخاص, هو إعفاء أي كائن, ليس الإله فقط, من قواعد منطقية استقرائية او استنباطية معينة, لكي تستقيم الحجة التي تدافع عن هذا الكائن. ولكي يتضح لك كيف أن هذا المنطق مغالط, سأعطي أمثلة معينة قبل الانتقال الى الإله , او المصمم الذكي , في هذه الحوارات البسيطة :

1-كريم : هناك صخرة حية, بدون أعضاء وبدون وظائف حيوية, وهذه الصخرة توجد خارج الكون.

2- سمير : لكن الصخور لايمكن ان تكون حية, بالاستقراء نحن نعرف أن كل صخرة هي غير حية, وبالاستقراء نعرف أن كل كائن حي لابد له من أعضاء ووظائف حيوية.

3- كريم : لا , هذه الصخرة استثناء من تلك القاعدة المنطقية, جميع الصخور التي نعرفها هي غير حية , ولكي تكون حية لابد لها من اعضاء, لكن هذه الصخرة معفية من هذه القاعدة الاستقرائية.

حوار آخر :

1- كريم : هناك فيل يطير في فراغ الكون.

2- سمير : نحن نعرف استقرائيا أن أي كائن حي يحتاج مواد عضوية, اوكسجين, ضغط مناسب...الخ.

3- كريم : نعم جميع الفيلة تخضع لهذه القاعدة الاستقرائية, باستثناء ذلك الفيل.

حوار آخر :

1- كريم : خارج الكون, 1+1=3

2- سمير : نحن نعرف بشكل استنباطي واستقرائي معا, بأنه في كل مكان ذهبنا إليه لحد الساعة, 1+1=2 ...

3- كريم : نعم, هذا ينطبق على كل شيء في الكون, باستثناء خارج الكون ...1+1=3

مثال آخر :

1- كريم : هناك صخرة عمياء صماء غير ذكية خلقت الكون, وهي خارج الكون.

2- سمير : بالاستقراء نحن نعرف أن الصخور صماء؟ كيف يمكن لصخرة صماء أن تخلق الكون؟

3- كريم : جميع الصخور الصماء عاجزة عن ذلك, وجميعها تخضع لهذه القاعدة الاستقرائية, لكن الصخرة الصماء خارج الكون قادرة على ذلك, وهي استثناء من هذه القاعدة.

لاحظ الآن هذا الحوار عن المصمم الذكي :

1- كريم : المصمم الذكي مجرد روح بسيطة

2- سمير : نحن نعرف بشكل استقرائي أن كل شيء ذكي رأيناه لحد الساعة, لديه نوع من التعقيد , بدءا من الحواسيب وانتهاء بالدماغ.

3- كريم : لكن هذا المصمم الذكي استثناء من هذه القاعدة.

وأذكر أيضا تلك المرافعة الخاصة الشهيرة : جميع الكائنات تحتاج خالقا, والاله استثناء من هذه القاعدة.

جميع الأمثلة فوق تسقط في مغالطة منطقية تسمى "المرافعة الخاصة" كما رأينا ... وكما تلاحظ , المرافعة الخاصة يمكنك بها أن تثبت وجود الفيلة التي تسبح في الفضاء دون تنفس, الصخور الصماء التي يمكنها خلق الكون, الصخور التي يمكنها ان تفكر ... والآلهة البسيطة التي يمكنها ان تكون ذكية وقادرة على كل شيء.

لهذا السبب, عندما يرفع المؤمن استثناء خاصا, فأنا أفكر في هذه المغالطة مباشرة ... وبصراحة لايقنعني كلامه لأني اعرف انه باستخدام نفس هذه المغالطة يمكن اثبات أي شيء.

لحد الساعة, كلامي لا يثبت ولاينفي وجود الإله, هو فقط يوضح كيف أني أرفض القول أن الإله استثناء من قاعدة بسيطة وهي أن اي كائن ذكي , بالاستقراء, لابد أن يكون كائنا معقدا.

اذن : الاستنتاج الذي اصل اليه بالاستقراء, هو ان الإله اذا كان ذكيا, فهذا يعني أن باستطاعته ان يؤدي حسابات منطقية ورياضية معقدة , اعقد من الدماغ بكثير, بشكل يجعله ذكيا.

من هذا استنتج, بأن الإله أعقد من الكون بشكل لانهائي .. ومحاولة اختراع الإله لتفسير وجود الكون : اشبه في الواقع بمحاولة قطع ورقة بمنشار كهربائي, ألا ترى معي ذلك؟

عندما تصل الى مثل هذه الاستنتاجات التي تجانب المنطق والعقل, عندها يمكنك ان تعرف بأن الاستنتاج فيه مشكلة : فكرة الإله فيها مشكلة, كيف اذن يمكننا أن ننظر الى الموضوع؟

  • إما أن الإله موجود, وتعقيده لانهائي

  • أو أنه غير موجود, وهذا لايتطلب أي تعقيد ...

سأتوقف هنا بخصوص التعقيد, وأنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى : الأزلية.

الأزلية في كلامي تعني ببساطة, احد شيئين :

  • إما أن الأزلي ضمن الزمن, ويخضع للزمن, وهو بهذا ممتد لمالانهاية في الماضي, ومالانهاية في المستقبل.

  • أو أن الأزلي خارج الزمن, ولايخضع للزمن, وهو بهذا موجود في اللازمان, بحيث أن الزمن لايمر عليه.

سأتجاهل هنا مشكلة التعقيد, وسأعتبر الإله مجرد روح بسيطة, ابسط من أبسط شيء نعرفه, لكنه بشكل ما قادر على ان يكون ذكيا ويقوم باتخاذ القرارات .

____________

الاحتمال الأول : هذا الإله ازلي, خاضع الزمن .

هذه هي الصورة التي تبدو لي متوافقة مع التراث الديني الاسلامي والمسيحي واليهودي. الإله فوق العرش, خلق الأرض في مدة معينة, ثم فرغ منها, ثم استوى الى السماء, ثم بدأ يخلق النجوم والأقمار والشموس وغيرها, ثم فرغ منها , ثم استوى على العرش يوم السبت : لهذا فيوم السبت سُمي عند اليهود سبتا , لأن الإله سبت فيه , أي استراح فيه , كما تقول التوراة : فيشبوت بيوم ها شبيعي مكل ملاختو آشر عسه , بمعنى : ويستريح في اليوم السابع من كل عمله الذي عمل.

ولهذا سمي السبت.

بمعنى : أن الإله عمل طول الاسبوع , ثم استراح يوم السبت : هذا يعني أن الإله في الاديان الابراهيمية الثلاثة, خاضع للزمن, على الرغم من أن الفلاسفة فيما بعد : كأمثال ابن سينا وغيرهم, فطنوا لهذه المشكلة.

سأوضح المشكلة هنا , في حال كان الاله ازليا , ليس له بداية أو نهاية زمنية, وهو ضمن الزمن.

هذا يعني أن الإله في هذه الحالة, إذا أراد أن يخلق الكون, فإنه يجب أن ينتظر عددا لانهائيا من الأزمنة الماضية, ويجب أن تمر جميع الأزمنة والايام والسنوات التي لم يخلق فيها الكون لكي يخلق الكون.

هذا معناه أن الإله لن يخلق الكون في هذه الحالة... لايمكن لعدد لانهائي من الأزمنة أن ينتهي ... ولن يصل اليوم الذي يفعل فيه الاله فعل الخلق.

بل إنه لايوجد يوم في اللانهاية يمكنه ان يأتي, جميع الايام في اللانهاية الزمنية لن تحدث اطلاقا : لأن جميع الايام لايمكن ان تأتي, وهذا يعني أن اللانهاية الزمنية ليس لها معنى إذا كان الإله ضمن الزمن.

لهذا السبب : هناك إله آخر , أسميه إلها فلسفيا أكثر تطورا من الإله الذي يخلق ضمن الأزمنة والأيام : إله خارج الزمن.

__________________

الإحتمال الثاني : الإله الأزلي, الخارج عن الزمن.

في هذه الحالة, بالنسبة لهذا الإله : جميع الأزمنة بالنسبة للإله الخارج عن الزمن, هي ضمن اللازمن, بمعنى أن الإله في فضاء غير زمني, لا تمر فيه اللحظات : وجميع لحظات الإله هي ضمن لحظة واحدة فقط , لنسمها : لحظة وجود الإله, وهي لحظة متوقفة في الزمن, ولا تنتهي اطلاقا.

المشكلة هنا مرة أخرى, هي مع التفكير الاستقرائي, وعدم امكانية اعفاء الإله ايضا من مشكلة أخرى متعلقة بالوعي والادراك.

حسب المنطق الاستقرائي, جميع الكائنات المدركة لذاتها, تكون مدركة لذاتها ضمن نطاق زمني, عدم وجود زمن بالنسبة لكائن حي معين سيبدو كالغيبوبة تماما : لا يوجد وعي ولايوجد ادراك.

سيقول المؤمن أن الإله استثناء من هذه القاعدة الاستقرائية الأخرى ... بالاستقراء نعرف أن جميع الكائنات التي رأيناها لابد ان يكون وعيها ضمن نطاق زمني, واستثناء الإله من هذه القاعدة يجعلنا أمام مشكلة أخرى : المرافعة الخاصة , لاحظ معي :

  • اذا كان من الجائز أن نُعفي الإله من كون الكائنات الواعية والعاقلة تكون كذلك ضمن نطاق زمني, بحيث أن الاله يمكنه ان كون واعيا ومدركا وعالما خارج نطاق زمني ... فسيكون من الجائز أيضا, بنفس المنطق الذي يستثني بعض الكائنات من قاعدة منطقية استقرائية او استنباطية معينة, أن نُعفي صخرة خارج الكون من ضرورة وجود عقل وادراك وعلم لكي تخلق شيئا ما. وهكذا بنفس المنطق سيكون من الجائز أن نقول أن هناك صخرة خلقت الكون, وهي لاتخضع لنفس المنطق الذي تخضع له باقي الصخور؟َ!!

لكن هناك جانبا آخر مشرقا من فكرة وجود إله خارج الزمن : هذا الجانب المشرق أوضحه فيما يلي من النقاط :

1- الإله الموجود خارج الزمن, كما وضحت بالاستقراء, لابد أن يكون غير واع بوجوده, يعني حالة غيبوبة ... لأنه لايمكننا فهم الوعي بدون زمن, ولايمكننا أن نقدم استثناءات للإله : لماذا لايمكن تقديم اعفاءات واستثناءات؟ ببساطة لأننا هنا نسعى لاثبات او نفي الإله, ولا نسعى للجري وراء الفكرة لاثباتها في النهاية. بالاضافة الى ان أي منطق يجعلنا نقدم الاستثناءات, سيجعل أن نقدم استثناءات لأي فكرة غير منطقية تطرح أمامنا : كالصخور المتكلمة.

2- هذا الإله الغير واعي بذاته, الخارج عن الزمن (لأننا رأينا بأن إلها داخل الزمن يخلق مشكلة كبيرة حتى للفلاسفة المؤمنين), قادر على كل شيء .

3- بما أنه قادر على كل شيء, فلا فرق لديه بين خلق فنجان قهوة, وبين خلق عدد لانهائي من الأكوان التي تشبه كوننا. بحيث أنه ليس خلق عدد لانهائي من الأكوان أقل سهولة لديه من خلق فنجان قهوة مثلا.

بالنسبة له : سواء خلق فنجان قهوة, أو خلق عدد لانهائي من الأكوان, هو على نفس الدرجة من السهولة. لأن قدرته غير محدودة

4- بما أن قدرته غير محدودة, فهذا يعني أنه بامكانه أن يأتي بجميع الأفعال الممكنة الحدوث فيزيائيا ومنطقيا, والتي تؤدي الى نشوء جميع الاكوان الممكنة, الناجح فيها والفاشل.

5- بما أنه بامكانه ان يأتي بجميع الافعال العشوائية الممكنة, الناجحة والفاشلة, والتي تؤدي بعشوائية الى نشوء جميع الاكوان الممكنة, التي ينهار بعضها بسرعة, وينجح بعضها في الاستمرار لبلايين السنين, فهذا يعني أن تحريكه للوجود بشكل عشوائي فقط كاف تماما لكي يؤدي الى جميع ما نراه حولنا.

6- اذا كان الاله يمكنه اذن أن يؤدي الى ما نراه حولنا عن طريق رمي جميع النرود بطريقة عشوائية؟

بحيث أن الإله في أزليته , يمكنه ان يُحدث جميع الافعال الممكنة التي تؤدي الى جميع النتائج, لأن الازلي لديه قدرة كافية ووقت كاف لتحقيق كل شيء : الافعال العشوائية الناجحة, والافعال العشوائية الفاشلة.

تماما كالحاسوب الازلي, الذي لم يخلقه احد,و الذي يغير ألوان كل بكسل على شاشته بعشوائية, بما أن هذا الحاسوب الاعمى ازلي, فمن المحتم ان يمر على جميع الصور الممكنة على الشاشة : سواء الصور العشوائية التي تحمل معنى, والصور العشوائية التي لا تحمل اي معنى.

بل انه عندما ينتهي من جميع الصور الممكنة, سيكررها ويكررها ويكررها , في جميع الترتيبات الممكنة للصور, ما يؤدي الى انتاج جميع الفيديوهات الممكنة, التي تحمل معنى والتي لا تحمل أي معنى.

لماذا اذن يحتاج الاله ان يكون ذكيا , اذا كان أزليا؟؟َ!

7- من هذا نستنتج أن الإله الذكي , والاله الغير ذكي , اذا كانا ازليين خارج الزمن, فبالامكان أن يؤدي كل منهما الى نفس النتيجة : وجود كون, وحياة على الارض وغيره...الخ.

بفارق بسيط :

  • الإله الازلي الذكي, يتناقض كونه ذكيا وواعيا بفكرة كونه خارج الزمن., بينما الإله الازلي الغير ذكي لايسقط في هذا التناقض. ولايمكن جعل الاله استثناء من ضرورة الزمن لوجود وعي, لأن هذا يجعلنا نسقط في مغالطة المرافعة الخاصة, التي يمكن بها اثبات كل شيء كما رأينا.

  • الإله الأزلي الذكي, يجب ان يكون اعقد بشكل لانهائي مقارنة بالكون نفسه, وجميع ادمغة البشر ...بينما الاله الازلي الغير ذكي لايحتاج هذا التعقيد.ولايمكن جعل الاله استثناء من ضرورة وجود تعقيد لوجود ذكاء, لأن هذا يجعلنا نسقط في مغالطة المرافعة الخاصة ايضا.

لنتوقف هنا اذن , ونسمي الإله الذكي ب"الإله", ونسمي الإله الغير ذكي , بـ "قوة وجودية" أو "قوة" فقط.

هناك أمور أخرى تجعلني ارجح بأن القوة التي أدت لنشوء الكون والوجود, ليست عاقلة ولا ذكية , وبالتالي : فالاله , أعني هنا الذكي, فرضية مستبعدة جدا.

أولا : الطاقة لا تستحدث من عدم ولا تفنى, وجود الطاقة, وكون المادة مجرد كمات طاقية في ميكانيكا الكم, معناه أن ما يشكل الوجود, ما يتشكل منه فنجان قهوتي, وجسمي, وعقلي ...كلها أشياء تتشكل من حقيقة بسيطة عن الوجود : شيء غير عاقل وغير معقد, تتشكل منه كل الاشياء.

ثانيا : بما أن الطاقة موجودة, وبما أن الطاقة لا تستحدث من عدم ولا تفنى, فهذا يعني أن كل ما يتشكل منه الوجود المادي, اجسامنا, أدمغتنا, الذرات, الالكترونات, الكون كله ... يجب أن يعود كله الى شيء بسيط جدا, غير معقد, ابسط من ابسط الكترون.

وهذا الشيء بما أنه لايمكن ان يأتي من عدم,وبما أنه موجود, فبالضرورة الفلسفية : هو واجب وجود.

ثالثا : بما أن هناك شيئا على الاقل, يتشكل منه كل شيء حولنا, واجب وجود , موجود لم يخلقه احد , وهو الحقيقة المطلقة, وهو حقيقة الوجود نفسه , حقيقة الكون, او متعدد الاكوان , او المتفردة الاولى التي كان عليها الكون نفسه : طاقة الكون, هذا يعني أن لدينا شيئا أزليا , لكنه غير عاقل, لأنه بسيط جدا.

رابعا : بما أنه غير عاقل, وازلي ... فهذا يصلح أن يكون مثالا على القوة الازلية التي اتحدث عنها فوق ...عوض اختراع اله ازلي وعاقل في نفس الوقت : هناك بالفعل شيء ازلي وغير عاقل, ولو عدت الى الحاسوب الازلي فوق: ستجد ان التشبيه منطقي جدا.

خامسا : هذه الفكرة بالضبط هي التي تجعل الملحد رافضا, او على الاقل غير مقتنع بفكرة الاله المصمم الذكي.

أنا لا اكره فكرة الاله , واجدها بالفعل مسلية وجميلة, لكن الحقيقة : هي ان الفكرة بنفسها هي فكرة ضعيفة جدا من الناحية الفلسفية, ولا يوجد ماهو اشد ضعفا في الفلسفة من حجج وجود الاله : جميع حجج وجوده تم الرد عليها بطريقة أو بأخرى بحجج أفضل أو على الاقل على نفس الدرجة من القوة.

أما الحجج من قبيل "البعرة تدل على البعير" , فالمُطلع على مبادئ الفلسفة والمنطق, سيرى كيف أنها حجة ضعيفة جدا : اذا كان منطق "البعرة تدل على البعير" يمكن احترامه دائما , فهذا يعني أنه من الجائز ان نسأل : على ماذا يدل وجود كائن عاقل ازلي قادر على كل شيء؟"

لابد إذن أن تتوقف التفسيرات عند نقطة معينة, وقد اثبتت ان نقطة الاله فيها مشاكل كثيرة, لهذا فالأكثر منطقية ان التفسير يقف عند شيء بسيط جدا, ازلي, لم يخلقه احد, غير عاقل, هو الذي يشكل الوجود كله, وقدرته في الاتيان بكون, او مادة, او بشر او غيره, انما تكمن فقط في ازليته , وليس في ذكائه او علمه.

وهذه هي الطريقة التي يرى بها الملحد الموضوع :

نقطة هامشية : اللاأدري ليس بالضرورة خلاف الملحد , أنا مثلا : ملحد, لأني أرى أن فكرة الاله غير مرجحة وضعيفة جدا... لكني في نفس الوقت لا أدري, لأني لا أقول أن الاله غير موجود, بل أقول أنه فرضية ضعيفة فقط...

أما الحقيقة فلا يعلمها احد : هل هناك إله؟ لا أعلم ... لكن الفكرة تبدو ضعيفة فلسفيا ومنطقيا.