كم تبدو الأيام متشابهة كثيراً و مختلفة كثيراً في ذات الوقت، كم من مرة، سلكت هذا الطريق المؤدي إلى المنزل، انعطافة بسيطة من الشارع العام إلى اليسار ثم إلى اليمين، و هناك يقبع منتزه الأطفال الفارغ من زواره إلا من بعض الأطفال يجلسون في انتظار شيء ما، شخص ما، يد كانون الباردة امتدت لتزيح الستار عن البرد و المطر و مزق الغيوم الرمادية، مثبطةً الكثير عن الخروج إلا للحالات الضروية.

مشت بسرعتها المعهودة على الرصيف الرطب ببقايا مطر الأمس، و بدأت حوقلة تنتظم و تعلو في الرنين بأذنيها، طويلة محملة بالكثير من الإنكسار و الأمل بفرج خفي. كان رجلٌ بملابس شتوية رثة يحمل أكياساً ثقيلة بكلتا يديه يمشي بإنهاك واضح و يتمتم ،على ذات هذا الرصيف الذي مشته..

بعد أن تخطته بخطوتين رجعت لتقف على مقربة منه بتردد ، " سيدي هل تحتاج مساعدة في حمل الأكياس؟"

هل يدفع الإعياء و القهر الناس للكلام ، ربما يجعل الأنسان شفافاً هشاً لا يقوى على حمل تعابير فرحة غير صادقة أو أجوبة في غير مكانها " لست من هنا، لا أريد مساعدة أريد فقط أن أصل للمنزل، أمشي منذ الصباح و ليس لدي سعر تذكرة الحافلة"

فكرت في المتسولين الذين لا يخجلون من الاقتتال على مكانهم اليومي ليمدو يدهم للناس، ولكنه لم يكن يتسول أو يستجدي أي شفقة بدا منهزما منكسراً وكأن الكلام شق طريقه من قلبه بمعاول من نصال حادة تاركاً أثراً خفياً لا يلتئم، ثم انبثقت تلك الصورة التي شاهدتها صدفة على حساب التواصل الاجتماعي صباح اليوم، صورة طفل ينظر إلى كيس من شوربة العدس بكيس بلاستيكي، لم يكن نظيفاً و لم يكن منظره مقبولا ولكنه انعكس في عينيه كالحلم.و بدا الرجل الذي سبق الزمان جسده بالعديد من السنوات الشاقة حقيقياً تماماً، لا ألوان معدلة و اقتباسات تثير العواطف و لا شاشة بلاستيكية تبعده، بدا كل شيء بحجمه الحقيقي و لونه الحقيقي.

امتدت يدها للمحفظة لتناوله باقي الفكة، "لا أريد سوى سعر تذكرة الحافلة أرجوك"

ناولته الفكة و رد بالكثير من الدعوات " لم آكل منذ الصباح ، أنا تعب جداً و جائع جداً و لدي مرض السكري.."

نظرت إلى الكيس المليء بالخبز الطازج الذي اشترته للتو " أعتذر منك، ليس لدي سوى حبة شوكولاته و بعض الخبز أرجوك اقبل ما لدي"

" أريد فقط نصف رغيف أسد رمقي"

كم بدت الدنيا سوداء و مظلمة بعد أن استدارت و أكملت طريقها، غيبها بعينيه الخضراوين في دعوات و صلوات شقت طريقها إلى حنجرتها مسببة غصة موجعة تعاظمت في كل خطوة اتخذتها نحو المنزل، ربما ذات الغصة المرة التي شظت سؤاله إلى ألاف القطع الحادة...