قصة متخيلة!

أتّجهُ كل مساء بعد الانْتِهاء من المدرسة لمحلِّ والدي كي أساعده في إغْلاقهِ, كُنت أعتقِد بطفولتي أن المَحلّ عبارة عن بناءٍ متكاملٍ, لكِنَّني اكْتَشفْت بعد أن صار عمري خمسة عشر عاماً, أنّه مُجرد مربّع قَصْديري تَمّ إضافة الخشب والثوب والجلد له على مرّ السّنين, حتى لصار عبارة عن كوْمة متماسكة من كل هذا وذاك.

أجلس بالقرب من والدي أراقبه وهو يُعيد خياطة الأحذية والحقائب ويضع الغِرَاء لبعْضٍ منها, ورغم تَقدُّمهِ بالسن إلا أنه لم يكن يكلُّ أو يملُّ وكان يتفاخر دائما بقوة بصره وعدم زيارته لطبيب العيون, الأمر الذي كان زُبناؤه يخالفونه الرأي فيه.

كان والدي يرغب في تعليمي الحرفة, ولكنّ أخي الأكبرَ عارض الفكرة بقوّة, ويعود له الفضل في قَراري تعلُّم نِجارة الألمنيوم.

-       " لا توافق والدي! لقد أضاع مستقبلي ولا أريده أن يُضيع مستقبلك أيضا! لو أنني وَلِجْتُ المدرسة لتعلّمتُ نجارة الألمنيوم. لا مستقبل لعمل والدنا, الأحذية تغيّر شكلها والكل يشتري أحذية وحقائب جاهزة إذا تمزّقت, لا يلْجأ له إلا الفقراء الذين لا يدفعون مقابل عمله المرهق ما يَسُدُّ رَمَقنا."

لم يكن أخي الأكبر على تَوافُق مع والدي, في واقع الأمر فهو ينام لِما بعد الظهيرة ليَخرُج بعدها من المنزل ولا يعود إلا بوقت متأخر من الليل كي لا يقابله.

-       " لقد عَلَّمْتُ أخاك الحرفة ولكنه كسول يَرْفضُ العمل, هذا فنٌّ وتراثٌ يجب ألا ينْقرض, أنا لم أُدْخِله المدرسة لأنني أعلم أنَّه كسولٌ, ولا يَصلُح له إلَّا تعلّم صِنْعة. "

هذا ما يُردّده والدي كل حين, وكنت أَسْتشفُّ دائما من عباراته نبرة الأسَى ومشاعر الذَّنب اتجاه أخي.

 والدي يردِّدُ على مسامعي العديد من العبارات والقصص فمنذ نعومة أظافري وأنا أسمع نفس الحكاية التي لا يملُّ سردها بخصوص بطولات جدي. كلّ مساء ونحن جلوس على الحَصيرِ بانتظار طعام العشاء كان والدي يقُصُّ علينا قصص مقاومة جدي للاحتلال, وفي كل ليلة يروي لنا مزيدا من التفاصيل الجديدة تكون أحيانا مُتناقِضة مع ما سمعناه منه مُسبقا, لقد أدركت ذلك في سن جد مبكّر, ومع ذلك أحبُّ سماع قصصه المسائية عن بطولات جدي.

كانت صورة جدي تتوسَّطُ جدار منزلنا الذي لم يَكُن على أيِّ حالٍ إلَّا غرفة واحدة مستطيلة, كُنتُ أُحذِّق في ملامحه الممحاة بالصورة البالية مطولا, علَّني أرسم له وجها في مخيّلتي وهو يَحْني رأسه لتقلّد قلادة فَخْريّة.

لدينا صورة أخرى له مُعلّقة بالمحل وهو رفقة زُملائِه بالمقاومة يحملون البنادق وبلِباَسهم التقليدي, وكلما أتَى زبون يحمِل في جُعْبته حذاءً ممزقاً, يروي له والدي بعضا من قصصه...يُحبّ والدي التفاخُر كثيراً! فهو يتفاخر بأختي الكبرى أيضا التي استطاعت إتمام الثانوية رغم ظروفنا الصَّعْبة والحصول على عملٍ بمطبعة قرب الجامعة, كان والدي يخبر الجميع أن أختي تعمل مع الأساتدة والدكاترة في الجامعة وتساعدهم على طبع بُحوثهم, ورغم أنه لم يكن يكذب إلّا أن صياغة عباراته كان فيها نوع من التضخيم لطبيعة عملها المتواضع جِدًّا, فهي لم تكن تحصل من صاحب المكتبة إلا على راتبٍ بَخسٍ, كما أن العمل نال من صحّتِها الكثير, فقد أُصيبت بمرض برئتها جراء استنشاق أبخرة الطابعات طوال ثلاث سنوات.

عُدْت من المدرسة كعادتي لمساعدة والدي على إغلاق المَحلّ, إلّا أنّني وجدت رجال السلطة والشرطة محيطين به, لقد كانوا يفاوضونه لإفراغ المحل وإزالته.

-        "سيدي هذا المحل يحتلُّ مِلْكاً عامّاً ونَحتاج لإزالته لإتْمام أشغال تجديد الشَّارع."

-        "أنا أعمل هُنا منذ عُقود طويلة, وقد شارك والدي في المقاومة, أهكذا تجازون ابن رجل مناضِل؟"

-        "سيدي أنت لا تملك هذا المكان, ليس لديك أوراق ملكيّة لهذه البقعة الأرضية, لقد جَازيْناك بأن تَغاضَيْنا عنك استغلالها طوال عُقود, أهكذا تُجازي كَرم السُّلطة؟ "

-        "ليس لَديّ مَوْرِدُ رزقٍ غيْر حِرفتي, وأبنائي عاطلون!"

كان بإمكاني لمْحُ والدي يُجهش بالبكاء وسط الرجال طوال القامة وهم يربِّتُون على كتفه, وقد كانت المرّة الأُولى بحياتي أشاهدُه فيها يبكي, حَزّ ذلك في نفسي كثيراً ولم أرغب في مشاهدة وسماع المزيد, فانصرفت مسرعا نحو البيت.

تلك الليلة جلسنا كالعادة بانتظار طعام العشاء إلا أنَّ والدي لم يَنْبِت ببنت شفة, كانت أوّل ليلة لنا لا يَقُصُّ فيها علينا بطولات جدي... ومُنذ ذلك اليَوْم ووالدي صَامِتٌ لا يتحدّث!