لم تكن رقعة الشطرنج بيني وبينه إلا ساحة حرب، أو هكذا أردتها أنا أن تكون، جاءنا ضيفاً، ثم استوطن وبتنا الضيوف، صارَ الابن المدلل وما كان يوماً ابناً للإله!، لم أكن لأعترض، لكن نيراناً عظيمةً تستفيق في حجرات قلبي الأربع باكراً، توقد نفسها مع حطب صبري وقهري وكيدي، وما زاد جنوني ونقمتي عليه أنه ملك كل شيء، كل شيء حتى رقعة الشطرنج خاصتي!.

         مساء كل يوم أتحدّاه بنزال شطرنجيّ. له المملكة البيضاء ولي السوداء، دائماً الأبيض له والحصة السوداء لي!!، فيبدأ، وأبدأ، يلعب، فألعب بحماسة أكبر... سأغلبه، سأنتصر، و، و، و.

          ينظر ببرود لدماء التحدّي تغلي في عينيّ فيبتسم، ثم يحمل فيله بخفة دون تثاقلٍ، يجعله يعبر حدّه الأبيض ليستقر في أملاكي ...

         دورك، هكذا الرقعة تقول، لا أجد غير القلعة لأحتمي بها. دوره، هكذا أعلمته الرقعة، بهدوءٍ يمرّر فيله الآخر في المسار الأسود. يا ربي ماذا أفعل؟؟، أحدّق في رقعتي، لن ينقذني إلا وزيري، هوب، أكلت أحد رعاياه، يبتسم ... لا يهمّه أن يُقتل مواطنٌ في مملكته وكأنه يستعلي بذاته، ثم يبدأ لعبته المعهودة، الحصان !!! ...

         كم يهوى اللعب بالحصان، وهو الذي عشق لعبة الظلّ وراء الجدار! تبدأ معركتي باستخدام فنون الحرب، وهو ،، بخفّة يمتطي حصانه ويقود الآخر ... خطوة، اثنتين، حركة، فأخرى، يرتفع ضغطي .... ثم

( كش ملك )

         وأخرج خاسراً، مشكلتي أنني دوماً أخرج خاسراً بحركاته نفسها. يمارسها بخفّة حتى حفظتها، ويفوز هو بها !!! ، وحين تبادلنا الأدوار مرة وكانت اليتيمة قمت بما قام به دون تغيير ، بالحركة الواحدة ، ورغم أنني اقتربت من خط الوسط ، اقتربت من اقتحام أرضه ولم أكن يوما لأتعدى حدوده، إلا أنَّ اللعبة انتهت على صوته ، باستفزاز

( كش ملك )

         علمت أنه سيغيب ثلاثة أيام ... فرحت ، هاأنذا ابن الأرض أخيرا ، ليته لا يعود ، ما أجمل الحرية !، عشت يومي الأول ملكاً ورأيتني أكيد له حتى أحتجزه!، ويومي الثاني كان سعيداً، خاصة وأن خيالي جعله مقيداً لأمر رحمتي!!، أمّا يومي الثالث فقد كان مصلوباً فيه والطير غاديات رائحات ينهشن جسده!! أو هكذا طاب لي الخيال أن أراه ؟؟!! ...

         لماذا أقبل وجوده في بيتي؟، لماذا أرضى استحواذه على قلوب المحيطين بي، متهمين إيايَ بسوء التصرّفِ، ملتمسين له أكثرَ الأعذار وأقواها ؟؟ ألا يمكنني أن أقول لا ؟؟؟ حسناً قد صلبته في خيالي، وسألاعبه الشطرنج أيضاً، سأتخيله موجوداً، ألعب مكانه، وألعب لنفسي، فان غلبته سأطرده غداً، وإلا فليبقى قلت ذلك في نفسي وخلايا دماغي تعمل بسرعة، و السعادة بادية عليّ، لأنني طبعاً لن أجعلني أفوز علي.

         -  ههههههههه – ما أروعها من فكرة، نعم لن أجعلني أفوز علي، تراقصت أسارير قلبي، وأنا ادخل غرفته التي كانت ذات يوم معبدي وسكوني، وملجأ عزلتي، وموطنَ قدسيتي، أخذها وباتت غرفته، بحثت بين أغراضها، هاهي رقعةُ الشطرنج، همست في زواياها، ألم تشتاقي لصاحبك القديم؟، قد اشتاق إليك ؟؟ هيا ساعديني لنعود لبعضنا البعض، رتبت جنوده، مستشاريه، وبقي ملكه .. حملته برقة وقبّلت رأسه هامساً: " اليوم يا حبيبي ستموت " – قلتها وكأنني فعلاً أنوي القيام بجريمة – رتبت جنودي وأحبتي. وكالعادة جعلت الأبيض له والأسود لي ... وبدأت به وتابعت لي ... وحركت له، وجاوبت عني. و اندمجت باللعبة، صرتُ أحرك أحجاره كما كان يفعل، بهدوء، بحذر، ببسمة لئيمةٍ صفراء، وأحرك أحجاري بعصبيتي وقهري ورفضي الصامت، أنقل فيله بخفة، وأهرّب مليكي خلف القلعة بقلق، وجدتني أتناقض مع ذاتي رغماً عني، وكأنني أعرفه وأجهلني!، وكأنني أتعاطفُ معه وعليّ أقسو!، ما الذي يحدث لي؟؟، أينني عني وحريتي؟ أينني عمّا قرّرته لأجلي وأهلي؟.

         لن أدعه ينتصر، فملكي - وحسب قناعاتي - صاحب الرقعة قبل اللعب وبعده، ومهما كانت النتائج، فأنا، أجل أنا مالك البيت وربُّ الرقعة منذ الأزل !! ...

         هيا، أيها الفيل الأخرق عد مكانك ... أرجعت فيله حيثُ مكانه الأولَ مدركاً في أعماقي أنه ما كان ليفعلها ولكنني فعلتها، لأنني أنا، ولستُ هو!، ليس هذا فقط، بل إنني قابلت وزيره بأحد جنودي فالتهمه بنهم وجوع، مسكين ذلك الجندي!، لم يحلم بوجبة دسمة على أرضه فكيف وقد التهم وزير عدّوه؟! أعلم أنني بعرفِ من يؤيدونه لستُ بعادلٍ أبداً، ولكن عليّ طرده، هكذا همس إبليسي في أذني، وربما هكذا همست حريتي في أعماقي، وحصانه، أينك يا حصان الفارسِ المقدامِ؟.. خطوتين للأمام وحركة لطيفة لليسار لأنّ وزيري غاضب ويريد دوس حصان الفارس ... وحين اقترب من بيت العنكبوت تمرغ بين شباكه ضحية غافلة ؟!.

 –  بطلٌ أنا، ههههههه – بإيمانٍ مطلقٍ وثقةٍ عجيبة أقولها، والآن وزيري على بعد خطوات من مستنقع عدوي الحقير، وجواداي يقبعان ليثان هادئان مهددان، ولأول مرة اخترق أجهزة الإنذار لديه وأدخل قصره العاجي، بل مستوطنته الكبرى، بعد قليل سأقولها ، نعم ... خطوة ، فأخرى ، أحرك له وأحرك لي، والآن سأقولها،

         ويلجم لساني قبل قولها ، أين الملك؟، أين سيد رقعته؟، أينك يا سليمان صهيونيته؟، كلّ حاشيتي على أرضه تحيط ببقايا رعاياه، ولكن أين الملك ؟؟!، واستيقظت على مفاجأة لم أكن قد تنبّهت لها، فعلى رقعتي وفي نصفي الذي أملك ودون قصد مني أو حتى انتباه، كان ملكه قد احتل مكان شاهي الملقى خارجاً، ولأول مرة يفوز دون جهد منه، لأكون سبب خسارتي ، ودون أن يستفزني صوته:

( كش ..... ملك )

....................................................................... من مجموعتي القصصية : [ القمر، وحكايات أخرى ]